أصبح جلياً في السنوات الأخيرة مدى قوة مواقع التواصل الاجتماعي، وتأثيرها على الرأي العام من خلال استهداف الجمهور المستخدم لهذه المواقع، الذي انعزل أو انشغل عن متابعة وسائل الإعلام التقليدية "المرئية والمسموعة"، وقد كانت العلامة الفارقة في هذا التحول هي بعد حراك "الربيع العربي" وتفجير الثورات عن طريق الفيسبوك وتويتر، بالرغم من أن دول الشرق الأوسط تتأخر كثيراً عن الغرب في استخدام وسائل الإعلام الحديثة؛ حيث تقدر نسبة استخدام العرب للتكنولوجيا الحديثة في إعلام "السوشيال ميديا" بسبعة في المائة من العالم،
وسجلت مصر وحدها ثلاثين بالمائة من إجمالي النسبة، ولم تنفع مع هذه الشعوب أساليب القمع الديكتاتورية الرتيبة التي مورست طوال سنين، من خلال التحكم بمدخلات الإعلام ومخرجاته؛ حيث أصبح التوثيق بالصوت والصورة لا يوقفه حاجز أمني أو مخبر سري، ولا يقع تحت رحمة سجون حرية الإعلام، وكمثال على ذلك ما جرى أيام الحراك الشعبي في العراق والمظاهرات السلمية المطالبة بالحقوق.
فكيف جوبهت من قِبل الحكومة آنذاك؟ اتخذت السلطات حينها عدة إجراءات كان أحدها غلق مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يكن ذلك مجدياً؛ فسرعان ما تدارك مستخدمو هذه المواقع المشكلة وبدأوا في تبادل برامج كسر الحظر (الهوت سبوت) السهلة الاستخدام على الهواتف النقالة وأجهزة الحاسوب.
وحتى الجماعات الإرهابية التي لها باع طويل في المواقع الإلكترونية والمدونات اتخذت طريق السوشيال ميديا لتجنيد المقاتلين واستمالتهم للقدوم إلى أرض المحرقة، وبعد دخول داعش إلى أراضي الشام والعراق غزت فكرياً وإعلامياً أكثر من تلك الرقعة الجغرافية بكثير؛ حيث توسعت نحو العالم من خلال نشر إصداراتها والترويج لأفكارها الخبيثة على تويتر ويوتيوب وغيرهما.
بعد ذلك أتت تجربة الانقلاب التركي، فكيف استغل طرفا الصراع برامج المحادثة ومواقع التواصل الاجتماعي؟
فالانقلاب ومنذ لحظاته الأولى كانت شرارته ورسم خطته وخريطة تحركاته من خلال استخدام مواقع الإنترنت وإرسال رسائل عبر برامج المحادثات المجانية والبريد الإلكتروني، وبالمقابل كان الرد وإفشال محاولة الانقلاب بنفس الطريقة وذات السلاح الحديث ذي الأداء الفتاك؛ حيث كان لبرنامج (فيس تايم) الدور الأكبر في بسط السيطرة على المعركة، بعد أن ظهر من خلاله أردوغان مخاطباً شعبه، وما هي إلا سويعات حتى عم الفيديو جميع أرجاء مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج تبادل الفيديوات والمحادثة، ونزل مؤيدو الرئيس إلى الشارع؛ ليشكلوا في ذلك مادة مهمة لكليات الإعلام، وتسجيل السوشيال ميديا كمنهاج جديد يجب أن يدرَّس في تلك الكليات.
بعد هذه التجارب أدرك الشباب وقادة المجتمع على حد سواء أهمية هذا السلاح الجديد الذي بدأ ينتشر بشكل أسرع من الصوت وأوسع من الفضاء، فكانت الحاجة ملحّة في إنشاء جيوش إلكترونية لصناعة الرأي العام وبناء وعي سياسي وتوجيه الجمهور بعدة طرق.
فكيف تم ذلك؟
حاول القائمون على هذه التوجهات مخاطبة العقل الباطن في الإعلانات غير المباشرة، والترويج السلبي بطريقة مقصودة لبعض الشخصيات في سبيل إثارة وتداول تلك الأسماء بشكل مستمر، أو استخدام تلك الصفحات لتسقيط الخصوم وبث الإشاعات، وتأخذ عادة تلك الصفحات أسماء مستعارة بعيدة عن الجهات السياسية التي تقف وراءها، كي لا تخسر جزءاً من الجمهور وتعطي انطباع الاعتدال، أو تأخذ اسم وطابع الفكاهة، ومن ثَم تروج لما تريده من خلال جرعات تسويقية صغيرة بين الحين والآخر، ومن تلك الصفحات مثلاً صفحة "ملتقى البشائر" التي يتابعها أكثر من ثلاثمائة وسبعين ألف شخص،
وتناصر في منشوراتها نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي وائتلاف دولة القانون، وكذلك صفحة "صبرائيل" التي يتابعها ما يقارب خمسة وعشرين ألفاً ومن خلالها يتم الهجوم على الأحزاب الدينية، أما صفحة "بنات سياسيات" فيتابعها أكثر من مائة وثمانين ألفاً، وتهاجم في منشوراتها العبادي بشكل مباشر، و"حرامية" صفحة أخرى يتابعها أكثر من مائة ألف وتنتقد منشوراتها نوري المالكي، وصفحة أخرى تحت مسمى "شبر المدني – جهينة" التي تنتقد السيد حيدر العبادي والسيد مقتدى الصدر على حد سواء، ويتابعها ما يقارب المائة ألف.
تختلف طرق تكوين وصناعة هذه الجيوش، فهي تكون إما من خلال دفع مبالغ مالية لصفحات متعددة مقابل الترويج لأفكار وشخصيات معينة، أو من خلال إنشاء صفحات من قِبَل موظفين لدى الممول سياسياً كان أو برلمانياً أو وزيراً، ومن ثَم الاستمرار في دعم الصفحة والترويج للشخصية بين الحين والآخر، أو تكذيب إشاعة أو بث بيان أو نشر حملة إنسانية، وكلها في إطار الحملات الانتخابية والدعاية لمالك الصفحة.
تتأهب هذه الجيوش وتدخل حالة الإنذار القصوى عند كل استحقاق انتخابي، ويستخدم معها المال السياسي؛ فتغرق صفحات التواصل الاجتماعي بالأقلام الأجيرة والإعلانات الممولة؛ لتحفيز الناخب للتصويت لصالح هذا المرشح أو ذاك.
بعد كل ذلك نستنتج وندرك مدى القوة الخفية التي تتمتع بها تلك الجهات من خلف الشاشات الإلكترونية، كما أصبح ملموساً أن خريف الإعلام التقليدي قد حلَّ وتسيّدت مواقع التواصل الاجتماعي الساحة الإعلانية والإعلامية، وسوف تكون أقوى أذرع السلطة الرابعة لتشكل قوة تضاهي القوى الناعمة وتتسابق عليها الأمم كسباق التسلح؛ لبسط النفوذ الأيديولوجي وتحقيق الطموح من خلال التسليح والدعم المالي المستمر للجيوش الإلكترونية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.