ذكرت في مقال سابق حول موضوع التسوية السياسية بأن حكومة بغداد وجدت نفسها محاطة بجهد تفاوضي دولي لا يمكن ستره عن جمهورها أو تجاهل تأثيراته عليها، ومن ثَمَّ بدأت فواعل الطبقة السياسية تنشغل بهذا الموضوع، وبدأ يستحوذ على أولوياتها دون أن يكون ذلك نابعاً من إحساس بضرورة مجتمعية، أو إشكالية سلطوية، أو مصلحة سياسية للمجتمعات العراقية المنقسمة، ودون أن يصدر الطرح من داخل هذه الفواعل، بل تشكّل من خارجها وفُرض عليها.
بمعنى آخر، حاولت هذه الفواعل أن تُقدِّم حلولاً عن إشكاليات لم تصدر منها، ولم تمثل إشكالية ملحّة -على الأقل في المرحلة السابقة- عليها إذا ما قيست بما تواجه هذه الفواعل من قضايا وتحديات أخرى، حتى في أذهان أصحاب بعض المبادرات في الموضوع.
وبغضِّ النظر عن موضع التسوية السياسية في إطار أولويات الاهتمام في ذهن الفاعل السياسي العراقي، غير أنه ينبغي التأكيد على أن الاهتمام بها حالياً يعكس حالة من رد الفعل، وليس الفعل.. حالة يُعبِّر فيها عن وضعية معينة تُصنع فيها الإشكاليات خارج الحدود ويتم تصديرها إليه، وبعد أن كانت تُقدَّم إليه الحلول سابقة التجهيز، أصبحت الآن -ومع تعقد المشهد للفاعل السياسي- تقدم إليه الإشكاليات، فينشغل بقضايا لم تكن نابعة من كياناته أو معبِّرة عن جمهوره واهتماماتهم، ولذلك فإن من غير المقبول سياسياً التركيز على نقد الحراك المصاحب للتسوية، ولا ينبغي النظر إليها على أنها مطلب مرحلي، ولكن لإثارة الانتباه إلى أبعاد سياسية أكثر خطورة وأهمية ينبغي التركيز والتيقظ لها وإثارة الانتباه إليها، ودعوة جميع الأطراف لفتح باب الحوار حولها.
إنَّ مفهوم التسوية السياسية ينصرف إلى بعدين؛ الأول: السجال السياسي الذي أساسه قرع الحجة بالحجة، واتخاذ موقف المعارضة المنطقيَّة -أو حتى غير المنطقيّة- بغية الكشف عن حقيقة المواقف، وقد كان هذا طابع أغلب السجالات -أو الحوارات- التي دارت منذ 2003.
وعلى العكس، يُثير البُعد الثاني لمفاهيم التفاوض السياسي الذي يحكمه عناصر القوة، ويهدف إلى تحقيق المصلحة وليس السجال أو غاياته.
ومن خلال هذين البعدين يمكن طرح تساؤل أساسي هو: أي تسوية مطلوبة؟ أهي تسوية يقصد الوصول إلى أهدافها والانصياع لها بعد إقرارها؟ أم هي تسوية تحقق مصالح معيَّنة وتفرض بمنطق القوة، وليس بقوة المنطق؟ وهو الموقف السلطوي منذ 2003.
من هنا نجد أن من الضروري تعريف مفهوم التسوية وتحديد معيارها ومقصدها، ومدى إمكانية تحقيقها، ومدى استعداد وقدرة أطراف التسوية على الالتزام بنتيجة التسوية وتفعيلها؛ إذ لا يمكن أن تتم التسوية إلا بين أطراف متساوين بالنِدِّيَّة ومتعادلين في القوة هذا من جهة، والاستعداد لقبول نتائجها وبجاهزية الالتزام بها من جهة أخرى.
وحتى يمكن الحديث عن تسوية سياسية "تاريخية" بالمعنى الحقيقي لها، وبعيداً عن المصالح السياسيَّة لقوى أو لدول معيَّنة، وبعيداً كذلك عن الانسياق وراء أطروحات قد لا تعبِّر عن حاجات عراقية حقيقية، وحتى يمكن تأسيس أسس للتسوية على قواعد سليمة، ينبغي التركيز على القضايا التالية:
إنَّ مفهوم التسوية السياسية يجب أن يُوضح المعنى المتعلِّق بالاتفاق والاختلاف حول الأفكار والقيم والمدنية، وقواعد السلوك السياسي، بمعنى أنَّ هدف الاتفاق حول التسوية هو الوصول إلى أمن المواطن واستقراره، واعتباره غاية ينبغي البحث والتفتيش عنه والانصياع لشروطه عندما يوجد الخلاف أو الاختلاف.
إنَّ معيار التسوية السياسية ينبغي أن يتم تحديده في قواعد وأسس المصلحة الوطنية، التي تتضمن (رؤية انفتاحية) تحدد الموقف من المختلف قبل المتفق معه، بما يعنيه ذلك من تحديد الموقف من المعارضين، وكذلك الموقف من (الآخر) المنضوي تحت الممانعين للعملية السياسية.
إنَّ مقصد التسوية السياسية بين المختلفين هي ضمان للتعايش والتصالح، وليست حلبة للتصارع والتقاتل، ومن ثَمَّ لا ينبغي النظر إلى الآخر على أنه عدو وينبغي هزيمته، ولكن على أنه مواطن ينبغي التعامل معه بصورة تحقق حريته وكرامته؛ لذا وجب استبعاد المفاهيم التي تتنافى مع هذه القاعدة.
تلك هي أهم الأمور الغائبة التي ينبغي أن الاهتمام بها لتسوية سياسية حقيقية، وبدونها سيكون الأمر تضييعاً للجهد والوقت يوكل للزعاطيط، وليس لرجال السياسة والدولة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.