الأسرى الفلسطينيون.. روح تحلّق بالأفئدة وجسد ينتظر الزمنُ رجوعَه

انتظرتها لدقائق حتى تجف دموعها التي ذُرفت على وجنتيها حينما سألتها: (ابنك أسير يا حاجّة؟) رأيت بعينيها حزناً عميقاً عمق البحار فتجاعيد وجهها تحكي مرارة الألم على لوعتها واشتياقها الشديدين لرؤية ابنها الأسير محمد، فكم تمنت أن تعانقه وتقبّله وتضمه على صدرها

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/15 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/15 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش

انتظرتها لدقائق حتى تجف دموعها التي ذُرفت على وجنتيها حينما سألتها: (ابنك أسير يا حاجّة؟) رأيت بعينيها حزناً عميقاً عمق البحار فتجاعيد وجهها تحكي مرارة الألم على لوعتها واشتياقها الشديدين لرؤية ابنها الأسير محمد، فكم تمنت أن تعانقه وتقبّله وتضمه على صدرها.

خيمة الإسناد والتضامن مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام المقامة على أرض السرايا في مدينة غزة تحكي واقعاً مريراً وقصصاً مختلفة من الأوجاع والآهات لن تنتهي؛ فهناك أمهات وزوجات وأخوات أسرى تلتاع قلوبهن كل يوم وكل دقيقة وكل ثانية حسرة على فراقهن أحبة سكنوا قلوبهن لسنوات قليلة ثم رحلوا، يعتصمن يومياً يواصلن تحديهن ومثابرتهن تحت أشعة الشمس فألم الفراق يدفعهن للذهاب لخيمة التضامن لعل صوتهن يصل إلى الآذان الصماء!

زوجة الأسير محمد كانت تجلس بجوار والدته، حيرّني صمتها طوال الوقت وشرودها المثقل بالهموم فبعد تنهيدة عميقة أجابت على سؤالي عن مدة محكومية زوجها قائلة: "زوجي محكوم مدى الحياة عارفة شو معنى مدى الحياة يعني كل شي حلو راح ومش راح يرجع تاني خلص!"، ثم اغرورقت عيناها بالدموع، ووقفت الغصات في حلقها، معلنة انتهاء الحديث، بدوري بحثت عن كلمة لطيفة ممكن أن تُقال لها في مثل هذا الموقف حقاً لن أجد سوى: "جعل الله صبرك في ميزان حسناتك شدّي حيلك".

فهي ممنوعة من زيارة زوجها منذ سنوات طويلة، وأولادها الذين تركهم والدهم أطفالاً أصبحوا آباء وأرباب أسر، فالزمن يجري وقضية الأسرى لن تتحرك بعد!. وحتى تُعيل أسرتها التي هي أمانة في عنقها بعد أسر زوجها مدى الحياة شغلت نفسها بتطريز مشغولات يدوية؛ حيث كانت ترتدي ثوب فلاحي مطرز قالت إنه ثوب المجدل بلدتها التي هُجرت منها متأملة أن تعود يوماً ما إليها.

الأسرى.. يخوضون بأمعائهم الخاوية إضراباً عن الطعام يشربون ماء وملحاً فقط منذ 17 أبريل/نيسان لإشعار آخر حتى تحقيق مطالبهم القانونية والمشروعة ولكي يصل صوتهم لكل من تخاذل تجاه قضيتهم ولكل من صموا آذانهم وعموا عيونهم عن الاعتقالات اليومية والمتكررة بحق الشبان والأطفال الفلسطينيين القصر؛ حيث يوجد داخل السجون الإسرائيلية 350 طفلاً لم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة وهناك 500 أسير محكوم بالسجن المؤبد و620 معتقلاً إدارياً بدون تهمة أو محاكمة و56 أسيرة من حرائر فلسطين و13 نائباً معتقلاً في سجون الاحتلال، فمن أبسط مطالبهم هي: (السماح بإدخال الملابس لهم، السماح بتقديم امتحانات الثانوية العامة، الزيارات، التنقل، الغذاء، الملف الطبي، تركيب هاتف عمومي للتواصل مع ذويهم، إدخال الكتب والصحف والمواد الغذائية، إنهاء سياسة العزل الانفرادي وسياسة الاعتقال الإداري).

هذا وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحدي الماء والملح في كثير من البلدان العربية والأجنبية تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؛ حيث قبل التحدي العديد من المشاهير والشخصيات وانتشرت الفيديوهات التي تعبّر عن ذلك.

تنقلت بين أهالي الأسرى ففي ركن بعيد في الخيمة شد انتباهي شابة جميلة في مقتبل العمر تجلس على كرسيها المتحرك ذهبت إليها وسألتها: هل أخوك أم والدك أسير في السجون الإسرائيلية؟ أجابت بابتسامة واثقة: لا يوجد لي أسرى يخصونني في السجون، لكني آتي إلى هنا كل يوم منذ بدء الفعالية، كما أشارك في اعتصام الأسرى الذي ينظم كل يوم إثنين مقابل الصليب الأحمر بغزة ولي ثلاث سنوات لم أنسَ أي موعد أو فعالية للأسرى وأصر دوماً على الحضور فلعل صوتي يُحدث شيئاً، هكذا حدثتنا عبير بكل ثقة وإرادة فهي تحمل شهادة في العلاقات العامة والإعلام فحسها الوطني يدفعها كل يوم لحمل العلم الفلسطيني، والذهاب إلى الخيمة متحدية إعاقتها الجسدية وكل الصعاب التي ممكن أن تواجهها، حتى توصل رسالتها بأن الإعاقة هي إعاقة الإرادة والفكر وليس إعاقة الجسد.

رحاب كنعان لمن لا يعرفها فهي الملقبة بخنساء فلسطين، كعادتها كانت أولى المتواجدات هناك، فإن التعب والإرهاق كانا واضحَين عليها؛ حيث إنها مضربة عن الطعام منذ نصف شهر، حدثتنا قائلة: كل يوم آتي إلى الخيمة هذا واجبي الوطني تجاه الأسرى الذين ضحوا بحياتهم، وكل ما يملكون من أجلنا، وهنا أستذكر أنه عندما تمر علينا ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا من كل عام أستذكر خنساء فلسطين، وعندما ألتقي بخنساء فلسطين أستذكر مذبحة تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، فهي الناجية الوحيدة بعدما فقدت 55 فرداً من أفراد عائلتها، ورغم كل النكبات التي آلمتها ومرت بها أجدها دوماً في كل المحافل صامدة شامخة كشموخ شجر النخيل، ومها تَلُوكها الأيام والسنين ألماً ووجعاً على فراقها عائلتها وأحباءها إلا أنها تكون ضمن المشاركين في كل مسيرة واعتصام.

تعج خيمة الاعتصام من كافة المآرب والأحزاب والكل يأتي ليتضامن، وعلى بعد أمتار من الخيمة وجدت مجموعة من الشبان المتحمسين وكلهم حيوية ونشاط كانوا يرددون هتافات بصوت عالٍ معلنين بدء إضرابهم المفتوح عن الطعام تضامناً مع الأسرى.

واللافت للنظر وجود عشرات اللافتات الكبيرة المعلقة في خيمة التضامن الداعمة للأسرى ومنها مكتوب عليها: (حريتكم قرار ولن يطول الانتظار، أسرانا ليسوا أرقاماً، لا غرف التوقيف باقية ولا زرد السلاسل، حرية أسرانا أمانة في أعناقنا، لا بد للقيد أن ينكسر مهما طال ظلم السجان، الحرية لأسرانا البواسل في سجون الاحتلال).

غادرت الخيمة وأنا أدعو الله أن يحقق مطالب كافة الأسرى والأسيرات، وأن تُستجاب رسائل كل من أضرب عن الطعام لأجل حرية أسرانا البواسل، وأن يصل صوتهم وتضامنهم كافة الدول العربية وكل الأحياء الأموات على وجه الأرض للضغط على حكومة الاحتلال، لتلبية مطالب كافة الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية.

وفي النهاية أقول: وحتى تقارير الصحفيين والمراسلين عن خيمة الإسناد والتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام تعجز عن إيصال الصورة الحقيقية للألم والمعاناة، ولكن مع كل هذا يستمر تحدي تلك الأمهات لكل ما تكالب عليهن من ظروف صعبة، نرفع الصوت عالياً لعل النداء يخترق الآذان الصماء.

معركة الأمعاء الخاوية هي الأقسى والأكثر صعوبة على كافة الأسرى المضربين عن الطعام، وبإذن الله ستنتصر.
#مي+ملح=كرامة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد