شتاء يناير/كانون الثاني من عام 2015، لم أكن أود النوم متأخراً تلك الليلة، ولكن انسحب بساط الوقت من تحت قدمَي من دون أن أشعر، نظرت إلى عقارب الساعة فوجدتها يقترب بعضها من بعض لتجتمع عند الثانية عشرة، وقتها شعرت بكم الإنهاك الذي أصابني بفعل المجهود الذي بذلته خلال اليوم، فقد كان يوم الجمعة، يظن البعض أن يوم الجمعة هو يومٌ للانسجام ولتفريغ كم الضغط الذي يصيبنا خلال الأسبوع، ولكن ما اكتشفته أن ما يقال عن يوم الجمعة ما هو إلا محض ظن.
اتخذت قراري وذهبت إلى سريري فكم أشتاق إليه، وإلى تلك الساعات التي أقضيها مفترشاً جسدي عليه، الآن أنغمس في ظلام دامس؛ حيث تبقى الأشياء ساكنة، هنا تفقد حواسي خواصها، إنه سكون استثنائي قبل أن تتلاشى الصورة بشكل كامل، الآن أشعر بوخز، إنه الألم قد استحوذ على كل جزء من جسدي، ولكنه ألم من نوع خاص، إنه ألم الراحة، يا له من شعور رائع، اختفت الصورة.
صوت انفجار، أمي تهرول ناحيتي مذعورة وتقول بصوت مرتجف "لقد أتوا"، إذن اتضح الأمر إنهم زوار الفجر، وما هذا الانفجار إلا صوت اقتحام منزلنا وتهشيم بابه تماماً، وهم الآن يصعدون درجات السلم، أسمع صوت وقع أقدامهم عليه، هنا تلاشى السكون الذي كنت أنعم به بالكلية، في حركة لا إرادية انتفضت من على فراشي مسرعاً في رحلتي للبحث عن بطاقتي الشخصية،
فما إن وجدتها حتى توجهت بالسرعة نفسها إلى باب شقتنا، ومن ثَّم قمت بفتحه مباشرة، فإذا بهم يدفعون الباب ناحيتي بقوة، وفي ثوانٍ لم يبق متر واحد في شقتنا إلا وفيه رجل مدجج بالسلاح، وبوجهٍ غطَّاه سواد قناعه الذي لا يتيح إلا لعينيه أن تبقى مكشوفة حتى تحدد هدفها من دون إعاقة، في تلك اللحظة لم يرهبني المشهد كثيراً فقد اعتدنا عليه في شوارع وميادين دولتنا المنتهكة من لحظة أن اعتلاها ثلة من الأوباش أتوا بفعل انقلاب دموي من صنع أيديهم، ولكن ما أرهبني حقيقةً أن المشهد هذه المرة أشاهده من داخل منزلي، فقد أتى دوري.
بصوت جهوري اتسم بالحدة والصرامة خرج أحدهم بلباس مدني ووجهٍ مكشوف ينادي "عبد الله حمادة فين؟" في لحظتها ومن دون تفكير ناولته بطاقتي الشخصية، وبصوت لم تنقشع عنه غفوة النوم بعد قلت "أنا عبد الله"، وفي جزء من الثانية ودون سابق إنذار وجدت يدي خلف ظهري مقيدة بقيود حديدية "الكلابشات"، قيود اعتدت رؤيتها، ولكن في المشاهد التمثيلية قديماً، وحديثاً في أيدي زملائي الذين طالما صدحت أصواتهم بنداء الحرية،
فها أنا الآن أنضم إلى صفوف المقيدين، بعد لحظات تم اصطحابي إلى عربة الترحيلات التي وقفت بالقرب من منزلنا هي وبعض العربات المدرعة الأخرى، وتحركت هذه التشكيلة من العربات المدرعة إلى وجهة غير معلومة، ولكن لن تبقى غير معلومة طويلاً؛ فنحن الآن قد وصلنا إلى وجهتنا، إنها مديرية أمن الإسكندرية، كان آخر ما تمنيته فيما مضى من حياتي أن آتي إلى هذا المكان، هنا تبددت كل الصورة في ذهني ولم يبقَ سوى هذا الوهم الذي استحوذ على عقلي بل على كل كياني، إنه وهم ما ينتظرني بالأعلى، بدأنا نصعد درجات السلم،
ومع كل درجة أصعدها أشعر بتقلص في رئتي، وكأن أحدهم يخطف أنفاسي، إلى أن نطق أحدهم أخيراً قائلاً بصوت منخفض: "لقد وصلنا"، الآن أعلم أين أنا، أنا الآن في الدور الرابع بمديرية أمن الإسكندرية، وما أدراك ما الدور الرابع، قاموا بتعصيب عيني وتقييد قدمي، وإذا بيد كالمطرقة تنهال عليَّ ضرباً دون مقدمات، أعلم جيداً أن تلك الضربات ما هي إلا البداية فالقادم أسوأ بكثير، وفي هذه اللحظة نادى في بصوته المخيف: "انت تعرف انت فين؟!" رد هو على نفسه في التو "انت في السلخانة".
حقاً نحن الآن في "السلخانة"؛ حيث لا توجد أي مظاهر للإنسانية، فهنا يوجد أناس قتلت بداخلهم الفطرة البشرية السليمة، فعقولهم مؤمّمة وقلوبهم مجمدة حتى أصبحوا لا يعون من الكلام إلا ما يأتيهم من أوامر مباشرة ببدء التعذيب أو إيقافه، اقترب مني أحدهم وهمس في أذني، وقال: "لا تقلق، دقائق وتبدأ الحفلة"، ولكنها ليست كأي حفلة إنها حفلة الموت البطيء، بعد دقائق من الضرب المبرح قاموا بجرّي على الأرض إلى داخل إحدى الغرف، وهنا شعرت ببرودة، ولكن ليست كبرودة شتاء يناير الذي نحياه بل برودة ما ينتظرني في تلك الغرفة، بعد دقائق اخترق أذني هذا الصوت الجديد والمميز عن باقي الأصوات التي سمعتها من قبل قائلاً: "أهلاً يا عبد الله، نوّرتنا" وتلت تلك الكلمات ضحكة هي الأبشع في حياتي كلها،
بعد ذلك طلب منهم أن يجردوني من ملابسي فبدأوا على الفور بفك الوثاق عن يدي وقدمي وقاموا بخلع ملابسي كلها، ولم يبقوا لي إلا الجزء السفلي من ملابسي الداخلية ثم أعادوا تقييدي مرة أخرى، ولكن هذه المرة بحبل غيظ، وبعدها بدأت تأتيني عدة صعقات كهربائية من كل الاتجاهات حتى ما ألبث أن يصلني ألم إحداها حتى تتبعها الأخرى، لم يتوقف جسدي عن الانتفاض بفعل تلك الصعقات الكهربائية، وبعدها سحبوني إلى مكان شعرت ببرودته في قدمي، علمت من أول وطأة قدم لي فيه أنه الحمام، ومن ثَّم قاموا بإغراقي في الماء البارد حتى لم تبقَ عضلة في جسدي إلا وأصابتها الرعشة، بعد فترة لا أستطيع تقديرها قاموا بإخراجي من الحمام وأعادوني إلى تلك الغرفة مرة أخرى، فاجأتني الصعقات الكهربائية مرة أخرى،
ولكن هذه المرة هي الأسوأ على الإطلاق فما زال الماء يتقاطر من جسدي، ولم يتوقف بعد، بعدها قاموا برفعي من يدي من الخلف على باب الغرفة وانهالت عليَّ الصعقات الكهربائية، في تلك اللحظة أصابتني تشنجات أدت إلى انقطاع الحبل الذي يقيد يدي، مما أدى إلى سقوطي أرضاً، ثم قاموا بتقييدي مرة أخرى واللعنات والسباب ينهال عليَّ ومن دون توقف، ومن ثَّم قاموا بتعليقي على الباب مرة أخرى فتكرر الأمر نفسه ثانيةً، وانقطع الحبل وسقطت أرضاً بسبب التشنجات التي أصابتني بفعل الكم الكبير من الصدمات الكهربائية التي استقبلها جسدي،
وكان التركيز بشكل كبير على الأجزاء الحساسة منه، وبعد ذلك قاموا بجرّي من الغرفة إلى الحمام وأغرقوني في الماء ثانيةً، ثم أعادوني إلى الغرفة، وهنا نادى أحدهم وقال: "الآن جاء دور الخرارة" ومن ثَّم قاموا بتمرير أسطوانة، لا أعلم إن كانت من الخشب أم معدنية، من بين رجلي من الجنب وقاموا برفعي من على الأرض وأسندوا تلك الأسطوانة على جزأين ثابتين، وهنا أصبحت كالذبيحة المعلقة، وهنا جردوني مما بقي من ملابسي، وانهالت عليَّ الضربات والصعقات الكهربائية من كل اتجاه مع بعض قطرات من الماء وأشعر ببعضها تتبخر بفعل الكهرباء، الآن ثقل لساني بعد طول صراخ وتجمدت عضلاتي وشعرت أن الظلام الذي لم يفارقني من لحظة دخولي إلى هذا المكان "السلخانة" شعرت به يجذبني إلى أسفل إلى اللاوعي، أنا أفقد وعي.
تكررت تلك الحفلة "حفلة التعذيب" عدة مرات حتى وصل بي الأمر إلى أن أطلب من الله أن يصرفني من هذا المكان بأي وسيلة حتى وإن كان الموت هو السبيل، انتهت حفلات التعذيب بمقطع مصور أجبرت أنا وآخرون على الظهور فيه، ووضعت أمامنا مجموعة متنوعة من الأحراز، والتي وقعت أعيننا عليها للمرة الأولى، ولكن لم ننشغل، وأجبر آخرون بالإدلاء باعترافات وهمية ليتم تسويقها مع المقطع المصور حتى يكتمل شكل القضية المعدة مسبقاً لنا، في اليوم التالي تم اقتيادنا من زنزانة الدور الرابع "السلخانة" ونحن معصوبو الأعين حتى وصلنا إلى باب مديرية أمن الإسكندرية الرئيسي، وعندها وقفنا جاءنا هذا الصوت الذي يحمل بين طياته كماً من المشاعر غير المفهومة ولا نستطيع تصنيفها قال بصوتٍ هادئ: "من الآن سوف تنعمون بمعاملة آدمية، وهذا يتوقف على تعاونكم معي، احمدوا الله أنكم الآن خارج هذا المكان"،
علمنا فيما بعد أنه الضابط المسؤول عن نقلنا من مديرية أمن الإسكندرية إلى مقر النيابة للتحقيق، في تلك اللحظات أعطى أوامره لرجاله بنزع الغمامات عن أعيننا، ظلت عيناي لعدة ثوان لا تستطيع قراءة الصورة بوضوح، أخيراً انقشع عنها السواد، من الآن لن يكون هناك صعق بالكهرباء، ولا إغراق بالماء، ولا تعليق على الباب، والذي كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلع في الأكتاف بفعل ثقل الجسم، من الآن بدأت مرحلة جديدة، أنا الآن معتقل سياسي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.