والدي الشهيد.. أكتب إليك بعدما انفض العزاء الخاص بك، وانصرف المعزون، ثلاثة أيام بلياليها لم أخلُ فيها لحظة بنفسي، كانت أياماً عجيبة تنوعت بها المشاعر، وتمازجت فيها الأحاسيس حزناً على رحيلك، وفرحاً باستشهادك، ألماً لفراقك وسعداً لمثواك، غصة لوداعك وشرفاً لمقامك، صرت في هناء، وأصبحنا في شقاء.
تعبت كثيراً في الأيام الماضية، وبكيت قبل أن أفرغ لحزني، كنت أتوقف عن البكاء لأنظر حولي، فأجد هؤلاء المعزين، أنظر في عيونهم، أرى الشفقة، وأسمع خطابهم فأشعر بالفخر.
أبي الغالي.. هل تعلم أنني كثيراً ما كنت أضبط نفسي وأنا أضحك من داخلي رغم دموعي المنسالة، وصيحات أمي الملتاعة، نعم يا أبي، كثيراً ما وجدتني أضحك من كلمات هؤلاء المعزين التي كانوا يظنونها مواساة لفجيعة وتضميداً لجرح، وهي كانت بمثابة الهراء، كانوا يقولون لي أبشر، فإن أباك في أعلى الجنان، وكأن مفاتيح الفردوس بأيديهم، أو لا تحزن فإن الشهداء أحياء، ولم يعلموا أن لا حياة لك بعيداً عني وإخوتي، ماذا يظننا هؤلاء القوم؟ هل يظنون أني موافق على رحيلك فقط أتفاوض على ثمن الرحيل، فإن كان باهظاً كجنة وفردوس فلا مانع؟!
أعجب كثيراً من أنهم يؤكدون لي أنك من فاز بالجنة والفراديس العظمى، فلماذا لم يسبقوك؟ لماذا أنت ورفاقك فقط من يفوز كل مرة؟ لماذا يتجنبون بكل وسيلة أي طريق يقربهم من الاستشهاد والجنان؟ شيء محير فعلاً، ما لهم لا يسبقونكم إلى ما يعدونكم؟
والدي الشهيد.. لقد قدمت برحيلك دليل إيمانك وقرينة عقيدتك، وعليه فأنا أثق أنك في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، ولكن ماذا عمن سيقف يوم الحساب، وليس في يمينه سوى عقيدته وعبادته هل سيكفيانه أم أنها درجات ولن أصل إليك سوى باستشهاد آخر؟
أبي الغالي.. سأقول لك شيئاً يضحكك، هل تعلم يا أبي أن هذا الرجل الذي قتلك مات أيضاً بعدك بلحظات متأثراً بجراحه؟ مات وأيضاً ترك أماً ثكلى وطفلاً يتيماً وأرملة حزينة، ويا للعجب أنه أيضاً يدعونه شهيداً وفي عزائه يقرأون نفس الآيات التي قرأناها هنا في عزائك، وعلى قبره خطت نفس الكلمات التي تتصدر مدفنك، ويكافئونه هو وأهله أيضاً بمقام الجنة إن صبروا ورضوا.
ولم أشغل نفسي -والدي العزيز- بمعرفة أيكما الشهيد أو بالبحث عن مقام كل منكما فقد ركنت إلى رأي أراحني أنه من الممكن أن يكون كلاكما شهيداً، وأن تكونا الآن متجاورين في خلود الجنة، وأن يكون قاداتكما هم من أهل النار، ولمَ لا؟ ألم يقولوا سابقاً قتلهم من أخرجهم؟
نعم هؤلاء الأسياد القادة الذين يملأون رؤوسكم بالأفكار وسلاحكم بالذخيرة يرسمون لكم طريق الجنة ولا يقربونه.
شهيدي الحبيب.. أريد أن أخبرك أنه لم يتم النصر بموتك أو موت من قاتلت، بل تبعك كثيرون منا ومنهم، ولم يتحرر تراب أو تعلو راية، بل حتى لم يلِن موقف واحد من قادتك وقادتهم، فقط ما تغير هو بيتنا الذي علاه الحزن وكساه السواد.
إنني على يقين أنك ورفاقك ستتقدمون الصفوف في يوم ما، وسيكون بجواركم من تقاتلتم معهم، بينما قادتهم وقادتكم لهم جهنم خالدين.
ترى مَن الذي خسرك يا أبي؟ أهو جدي وقد كنت ذخيرته لشيخوخة أقبلت؟ أم أمي وقد كنت حصنها وأمنها؟ أم تراني أنا وقد ذهبت وذهب معك مستقبلي؟ في كل الأحوال هو واحد منا، وليس هذا الرجل القائد الذي يملك غيرك كثيراً، كلهم يرجون شهادة تعتمدها يد القائد المباركة.
والدي الشهيد.. سأكتب لك ثانية، سأحكي لك أحوالنا بعدك، وأرجو أن أجد خيراً لأقوله، فهؤلاء المعزون كرماء بألسنتهم أعطوني الجنة وبأيديهم أعطونا كثيراً من المال، وأظن أننا سنجد أموالاً أخرى في انتظارنا عندما نعوز.
إن عوضتنا أموالهم عنك سوف أخبرك، وعليك أنت أن تخبرني بما تجد من صنوف النعيم، أخبرني عن مقامك، أخبرني من معك.. والسلام ختام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.