بالتنصيب الرسمي لحكومة سعد الدين العثماني، يكون إذاً قوس الحراك السياسي بالمغرب قد أغلق، وما سيأتي بعده يبقى مجرد تفاصيل فقط؛ لتعود معه مرحلة تسيّد القصر وحده لا شريك له للمشهد السياسي من جديد، مرحلة تبدو معالمها غير واضحة لحد الآن، فبين مَن يراها فرصة للأخير لاستعراض عضلاته والقيام بعملية تقليم لأظافر الحزب الإسلامي، بما يشكل عبرة لمن يفكر مستقبلاً في مزاحمة سلطته شبه المطلقة، وبين من يعتبرها مجرد عودة خطوة للوراء والانحناء للعاصفة فقط، في انتظار الفرصة السانحة للعودة من جديد لموقعها، وتحقق بعد ذلك خطوتين نحو الأمام.
لحد الآن لم يحسم أي من الطرفين الحرب لصالحه، وإن كان يبدو أن القصر استعاد زمام الأمور واطمأن فعلاً لزوال خطر موجة الشارع، وقد ظهرت معالم ذلك في السعي لفرض شروط مهينة ومذلة على رئيس الحكومة الجديدة، التي اعتبرها الكثير انبطاحاً كلياً للحزب أمام أول محك حقيقي، الشيء نفسه جعل الكثيرين يعتبرون أن الحزب سقط أسير فخ عسل السلطة والمناصب، بما جعله غير مستعد هو الآخر إلى العودة مرة ثانية إلى سنوات القحط والجفاف؛ لينضم هو التالي إلى تلك الكوكبة من الأحزاب المعارضة السابقة التي سقطت في نفس الفخ؛ لتبقى الشعارات الجوفاء والتاريخ النضالي المزعوم هي وحدها الذريعة التي لا تزال تسعى جاهدة بها لتبقى على قيد الحياة، وتسهم في عملية تأثيث كاريكاتورية للمشهد كسابقتها لا أقل ولا أكثر.
القصر كلاعب للدور المحوري والمركزي داخل المشهد السياسي، ما كان مستعداً في يوم من الأيام للتخلي عن سلطته؛ حيث دخل من أجل ذلك في صدامات وصراعات مع كثير من الأطراف والتيارات الداخلية، وحارب بشراسة ضد كل من يقترب من نطاق ومجال تحركه.
تجارب التاريخ السياسي الراهن تعطينا صورة واضحة عن كيف يفكر الأخير ومنطقه في تدبير وإدارة صراعاته، كان ذلك بالبدء في الصراع مع حزب الاستقلال خلال أواخر الخمسينات، مروراً بالاصطدام مع اليسار، خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنوات الستينات، انتقالاً إلى كسر العظام مع الإسلاميين، خاصة العدل والإحسان، والشبيبة الإسلامية في مرحلة السبعينات والثمانينات.
كان سلوك القصر واستراتيجيته ثابتين ومبنيين على عناصر، أبرزها خلق انقسامات داخل الجماعات، واستقطاب وتدجين النخب داخلها، ثم التلويح وتوظيف العصا الأمنية وحتى العسكرية إذا ما اقتضى الحال ذلك.
فكحاكم مدافع عن سلطته، يخضع منطقه في تدبير الأمور لبعض المبادئ البسيطة، وعدم السماح لأي جماعة أن تتقوى أكثر من اللازم، وتشجيع كل الانقسامات والمنافسات الممكنة للحيلولة ضد هيمنة أي واحدة منها، ومن جهة أخرى عدم قبول انقراض أي جماعة مهما كانت، بما في ذلك أحزاب المعارضة؛ إذ يمكنها أن تجمد أو تعطل نشاطها مؤقتاً شريطة أن تحتفظ بشعلة من الحياة يمكن إحياؤها عند الضرورة.
من نقط القوة لديه كذلك هو النفس الطويل؛ حيث يشكل ذلك آلية فعالة لإنهاك الخصوم، وأيضاً بما يتيح له الفرصة لترتيب أوراقه وضبط ردود فعله تجاهها، مع أن الآلية المفضلة هي خلق الانقسامات داخل الجماعات المعارضة، ويتم الأمر في العادة باستمالة نخب منتقاة بعناية وإغرائها ببدائل وحوافز مغرية، سواء أكان ذلك عبر هبات ومزايا اقتصادية، أو عبر المناصب والترقيات الإدارية.
فمناصب الإدارة تشكل آلية رئيسية لاستمالة وتدجين نخب المعارضة؛ لذلك فإشراف الملك على التعيينات الكبرى والترقيات هو مكافآت وتوزيع للمنافع على النخب الوفية والمستعدة للتعاون، كما أن التعيين في الإدارة يستعمل لأغراض فرض الوصاية على النخبة، أو تطويق الأتباع الجدد أو حتى تجميد المعارضين، ونادراً ما يتم رفض هذا التعيين.
من التكتيكات كذلك أن النظام غالباً ما يجيد لعب دور الضحية، ولعب دور ذلك الملاك الذي يحيط به زمرة من الانتهازيين والفاسدين، بمن فيهم المنتخبون والسياسيون، كما أنه يدفع بالخصوم الذين يقبل بهم عن مضض بأي حال من الأحوال لمواجهة العامة، والدفع بهم لتبني سياسات قاسية ومؤلمة للشعب، (تم الأمر في حكومة بلافريج 1956، وحكومة عبد الله إبراهيم 1957، واليوسفي 1998 وأخيراً حكومة بنكيران)، كل ذلك ليبقى هو الخلاص الدائم والأبدي والبديل الذي لا مناص منه.
ولا ننسَ أيضاً الكثير من السلوكيات التي تدخل في نفس الإطار، وتحقق نفس الغاية، كالحملات الإعلامية، والتخوين، وحياكة الملفات الأمنية، وغيرها من الأشياء المشابهة.
تبقى الأجهزة الأمنية والعسكرية في حالة احتياط دائم لمواجهة أي سيناريو عن نطاق اللامتحكم فيه، وأن يبقى العنصر الثابت هو الاعتماد والثقة في وزارة الداخلية لفرض السياسات والتدابير الاستراتيجية التي يتبناها القصر مهما كان القطاع المعني بذلك.
لكن العنصر والتحول الجديد هو أن صراع اليوم هو مع فاعل وطرف غير عادي، ومع تيار مغاير تماماً لكل من تم التعامل معهم سابقاً، فهو ليس بحزب استقلال الخمسينات، ولا اتحاد الستينات، ولا أي من التنظيمات الأخرى، فهو أمام فاعل يعلن صراحة أنه ملكي ومع الملك (بما ينزع ذريعة الصراع على الحكم عنه)، وفاعل مستعد للاشتغال ضمن القواعد المحددة سلفاً وفي إطار الثوابت المتفق عليها رسمياً، دون مسألة غياب عنصر ثقة كل طرف في نوايا الآخر.
لكن مشكلة الفاعل الجديد أنه غير قابل وغير مستعد للتدجين الكلي، ومشكلته أنه مع الملك صحيح، لكنه ضد من يحيطون بالملك، وضد من تراه فساداً لنخبة المخزن، فهنا يخلق الإشكال؛ لأن من يعرف علاقة القصر بهذه النخبة سيفهم أن أي اقتراب لنطاق هذه الأخيرة هو بشكل أو بآخر اقتراب لنطاق القصر، زد على ذلك أن أكبر مشكلة تحد من توافق الطرفين هو أن القصر لا يريد أياً كان أن يشاركه في حكمه، بينما الطرف الآخر لا يريد أن يكون مجرد حزب كاريكاتوري لتأثيث المشهد فقط كالبقية.
فهل فعلاً اكتملت صورة المشهد المستقبلية بحسم القصر للمعركة؟ وهل يمكن الجزم كذلك بكون السلطة استعادت كل ما فقدته مجبرة بعد حراك الربيع العربي وبالتالي معه إغلاق قوس الإصلاح؟ أم أن هذه أسئلة سابقة لأوانها في ظل عدم كشف الطرف الآخر بعد لكل أوراقه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.