يفتقر الوطن العربي إلى مظلة قوية كي يحمي مصالحه الإقليمية والدولية، وتزداد أزمات الأمة العربية بشكل مطرد، في ظل حالة من التراجعات العربية في العديد من الميادين، ومن ضمنها -ولا شك- القارة الإفريقية، وفي ظل أيضاً حالة من التشتت والانقسامات العربية – العربية، فقد العرب جزءاً من أمنهم نتيجة لعدم مقدرتهم على امتلاك منهجية واضحة في التعامل مع الصراعات القائمة في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين، تحولت إلى صراعات دموية لها أبعاد طائفية وعرقية ومذهبية ومناطقية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
فقد شهدت المنطقة العربية تحولات كبيرة منذ حرب الخليج الأولى، أو الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980، ثم قيام النظام العراقي بغزو الكويت عام 1990، ثم الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، والأزمات التي دخلت في أتونها كل من مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وانقسام السودان ونشوء دولة جنوب السودان في عام 2011، وحالة التراجع الإقليمي والدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والتمدد والعربدة الإسرائيلية في المنطقة، ناهيك عن سياسة الاستيطان والتهويد للقدس ولبقية الأراضي العربية في فلسطين، التي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
كل هذا والأنظمة العربية ما زالت تبحث عن الحد الأدنى من التقاطعات المشتركة من أجل العمل الجماعي للحفاظ على ما تبقى من القيم والمصالح الجمعية للأمة العربية، وما زالت معظم الأنظمة العربية غير متصالحة مع شعوبها، بل عمدت إلى تأجيج المشاعر القطرية والحلقية الضيقة لدى هذه الشعوب، وإذكاء المشاعر القومية والعرقية والمذهبية، كي يبرز وجه الانقسام الشعبي العربي في أقبح شكل له لم تشهد له المنطقة مثيلاً.
الأنظمة العربية ما زالت لم تمتلك استراتيجية واضحة ومحددة لمواجهة كل هذا الخطر الداهم، وما زالت خطواتهم مترددة وعاطفية لا تعبر عن وعي وإدراك لطبيعة المرحلة، ولا تنسجم مع حجم التحديات التي يواجهها الأمن القومي العربي، وهو أمر غير متيسر للأسف خلال هذه المرحلة بسبب عمق الشرخ في العلاقات العربية – العربية، وانقسام العرب بين معسكر ممانع ومعكسر معتدل، وكل من طرفي المعسكرين يجد نفسه في حالة صدام وطلاق مع الطرف الآخر، ولم يقف الأمر عند حدود صراع الأنظمة، بل لقد انتقل هذا التجاذب إلى الشعوب العربية التي تحولت بدورها إلى ما يشبه مشجعي فرق كرة القدم من خلال هذا الاصطفاف غير الموضوعي عبر الخندقة المذهبية أو العرقية،
ولم ينجُ حتى جزء كبير من المثقفين العرب للأسف من هذا الهيجان والسعار، الذي سوف يؤدي إلى مزيد من الانقسامات والتشرذم في الواقع العربي المنقسم في الأساس على نفسه، وسوف يضعف أكثر فأكثر مقدرة العرب على التصدي لاستحقاقات اللحظة التي تتطلب كافة جهود العرب، من أجل الحفاظ على أمنهم ومستقبلهم من الضياع، في منطقة غنية بالثروات الباطنية والمواد الخام، وغنية بموقعها الاستراتيجي، منطقة تتصارع عليها قوى إقليمية وعالمية من أجل بسط نفوذها علينا، وعلى ما نمتلكه من ثروات.
في الوقت الذي يخسر فيه العرب وينحسر دورهم الإقليمي والدولي، وفي مستويات متعددة، منها تراجع دورهم ونفوذهم في القارة الإفريقية، فإن هناك دولاً إقليمية أخرى تتطور وتسعى بكل ما لديها من إمكانيات إلى أن تفرض نفسها كقوى إقليمية صاعدة يجب أن يحسب حساب وزنها السياسي والاقتصادي والعسكري مستقبلاً، وهي دول لها مصالح في التمدد والتوسع في القارة الإفريقية بالطبع على حساب المصالح العربية.
وما زال أمام العرب ملفات متعددة تحتاج منهم إلى مقاربات ومعالجات استراتيجية، من أهمها العلاقات العربية – الإفريقية، واستعادة الدفء والحيوية إلى هذه العلاقات التاريخية بما يخدم المصالح المشتركة، ومساعدة دول القارة الإفريقية على الخروج من أزماتها الاقتصادية، عبر برامج وخطط تعتمد العلمية، وتطوير اقتصاديات إفريقيا، وعدم الاكتفاء بالمنح والهبات المالية التي تقدمها بعض دول الخليج إلى دول إفريقية.
العلاقات العربية – الإفريقية تحتاج إلى وضع خطط استراتيجية تهدف إلى رسم آليات لإعادة الثقة بالعلاقات مع القارة السمراء، والنظر إلى إفريقيا باعتبارها ليست فقط جارة، بل هي العمق الاستراتيجي للعرب، فلا يجوز أن تظل إفريقيا مرتعاً للنشاط الإسرائيلي وأجهزة مخابراتها التي تعبث بالدول الإفريقية، وتبعدها عن العرب، من أجل حصارهم وتهديد مصالحهم، وعلى العرب توفير كل الإمكانيات التي تسهم في استقرار وضع القارة الإفريقية، خاصة منطقة القرن الإفريقي؛ لأن هذا يصب في مصلحة الحفاظ على الأمن القومي العربي.
ثم هناك العلاقات العربية – الإيرانية، ما يتوجب على الطرفين إعادة تصويب هذه العلاقة، بما ينسجم مع التاريخ المشترك والمصالح المتبادلة المبنية على علاقات حسن الجوار والانفتاح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المنطقة، وزيادة التبادل التجاري، والتعاون للحفاظ على أمن المنطقة.
العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الأميركية ومع دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى تقويم وبحث أعمق لجهة الكف عن النظر للمنطقة على أنها سوق استهلاكية واسعة للمنتجات الغربية، وعلى أنها منطقة تنتج البترول وغنية بالثروات فقط، على العرب أن يبذلوا الكثير من الجهد والعمل لتطوير بلدانهم؛ لترقى إلى مستوى يستطيعون فيه فرض احترامهم على الآخرين.
الصراع العربي – الصهيوني هو واحد من أهم وأعقد الملفات التي تتطلب رؤية ومعالجة من قِبَل الأنظمة العربية، بدءاً من إدراك العرب أن هذا ليس صراعا فلسطينياً إسرائيلياً، مروراً بتحديد العلاقة مع إسرائيل باعتبارها كياناً محتلاً وغاصباً، إلى وضع استراتيجية عربية لحل هذا الصراع المستمر منذ سبعين عاماً.
تفعيل دور الجامعة العربية وجميع المنظمات والهيئات والأطر العربية المشتركة، والارتقاء بدور الجامعة العربية لتصبح ممثلة حقيقية لمصالح الشعوب العربية وتطلعاتها، وذلك عبر إعادة هيكلة جميع أطر الجامعة والمكاتب التابعة لها، ووضع خطط واستراتيجيات جديدة تضع المصالح المشتركة فوق المواقف الحلقية والقطرية، وكذلك إنشاء مراكز دراسات وأبحاث حقيقية ودعمها بالإمكانيات المالية والكفاءات البشرية والمستلزمات اللوجستية، بما يضمن لهذه المراكز أن يكون لها دور مهم في انتشال الأمة العربية من واقعها الذي لا يدل على عافية.
هناك أيضاً تحديات كثيرة ومهمة غير التي ذكرناها تواجه الأمة العربية، وتحتاج منها إلى توقف وإعادة قراءة، وتلمس الواقع بأدوات جديدة ومناهج مختلفة عما اعتدنا عليه، بهدف إنقاذ ما بقي من الإرث والهوية العربية والمصالح المشتركة بين شعوب الأمة، بعيداً عن المناكفات والمماحكات والعصبوية، هذا لأن الخطر الداهم كبير وحقيقي ما يهدد حاضر العرب ومستقبلهم.
إن الصهيونية وابنتها المدللة إسرائيل هي المستفيد الوحيد من حالة التشرذم التي يتسم بها الواقع العربي، وليس مبالغة القول إن إسرائيل تحاصر المصالح العربية في إفريقيا، اللافت هو أن الدول العربية تبدو وكأنها تتخذ موقف اللامبالاة مما يجري في الدول الإفريقية من تحولات في علاقات القارة الإقليمية والدولية، وكأن إفريقيا هي بمثابة جزيرة بعيدة ومعزولة تقطنها الأشباح، ولا تعني للعرب شيئاً، رغم أن القارة الإفريقية هي الحديقة الخلفية للعرب ومجالهم الحيوي وعمقهم الاستراتيجي، ولا نعرف في الحقيقة سبباً موضوعياً يدعو العرب إلى إهمال القارة الإفريقية سوى أنه موقف يعبر عن قصور في الرؤية، وفي المقاربات السياسية والاقتصادية والأمنية،
وبالتالي عدم وجود استراتيجيات واضحة للعلاقات العربية – الإفريقية، وعلى العكس من الموقف العربي الضعيف والمترهل وعديم التأثير، نجد أن مستوى الاهتمام الإسرائيلي والأميركي والغربي والإيراني والتركي بالقارة الإفريقية يزداد ويتسع لدرجة التنافس على ثروات القارة السمراء، وهو اهتمام يتضح من خلال سعي هذه الدول لتعميق وتطوير علاقاتها مع دول الاتحاد الإفريقي، والزيارات المتكررة للكثير من المسؤولين الغربيين والإسرائيليين وغيرهم سراً وعلانية إلى القارة الإفريقية، وكذلك من خلال إبرام العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع دول القارة، وتقديم المساعدات التقنية والعسكرية للكثير من هذه الدول بهدف إيجاد أماكن نفوذ لإسرائيل والغرب في إفريقيا،
خاصة في منطقة القرن الإفريقي من أجل ضرب المصالح العربية، وفي الدول المطلة على البحر الأحمر لحماية الممرات المائية الدولية من أجل ضمان وصول الإمدادات النفطية للغرب، وفي الدول الإفريقية التي تضم ثروات ومواد خام تحتاجها إسرائيل والغرب كمواد أولية لا غنى عنها في صناعات هذه الدول.
مع بداية القرن الواحد والعشرين أدرك قادة إسرائيل أن هناك ضرورة ملحة للتدخل لمعالجة التقصير في علاقتها مع دول القارة الإفريقية على المستوى الرسمي والحكومي؛ لأن الشركات الإسرائيلية ورجال الأعمال كانوا لا يزالون مستمرين في إبرام العقود مع الحكومات الإفريقية وتحقيق أرباح معظمها مشبوهة لرجال أعمال إسرائيليين حصلوا على حصتهم من كعكة الألماس واليورانيوم، وكذلك شركات الأمن الخاصة وتجار السلاح الذين تورطوا في الصراعات المحلية؛ إذ غابت إسرائيل الرسمية وحضرت أجهزة مخابراتها.
ومن أجل مواجهة دور مصر العائدة بقوة إلى الساحة الإفريقية، وأيضاً لمواجهة التمدد الإيراني الذي بدأت ملامحه تتضح من خلال إحدى عشرة زيارة لدول إفريقية قام بها الرئيس الإيراني السابق "أحمدي نجاد" خلال فترة ولايته الرئاسية، وفي عام 2013 زار النيجر رابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وأدخل إيران على خط مبيعات الأسلحة لإفريقيا، وبذلك باتت في تنافس مع إسرائيل والغرب.
في عام 2009 قام وزير الخارجية الإسرائيلي "ليبرمان" بزيارة إلى بعض الدول الإفريقية، وسعى خلال هذه الزيارة إلى قبول إسرائيل كعضو مراقب في منظمة "الاتحاد الإفريقي"، هذا الطلب الذي عارضه بشدة الرئيس الراحل "معمر القذافي"، مما شكل تحدياً لإسرائيل، خاصة بعد قبول فلسطين كعضو مراقب في الاتحاد.
في الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" عام 2016 إلى إفريقيا، وخطابه الشهير الذي ألقاه أمام البرلمان الإثيوبي؛ حيث أشار إلى قرابة الدم بين الشعبين؛ لأن أباطرة الحبشة كانوا من نسل ملكة سبأ وسليمان ملك القدس؛ حيث يؤمن الإثيوبيون بأن ملكة سبأ أنجبت طفلاً من الملك سليمان، ومن نسله انحدر ملوك إثيوبيا، حتى إن الإمبراطور هيلا سيلاسي أعلن أنه الملك رقم 225 من أبناء الملك سليمان وملكة سبأ، وكان أخطر ما قاله متعلق بالمياه؛ حيث قال حرفياً: "سوف نعمل معاً من أجل أن تصب المياه في أي اتجاه تريدون"، وقد حصل نتنياهو على دعم كل من كينيا ورواندا وإثيوبيا وجنوب السودان وزامبيا ومالاوي؛ لكي تحصل إسرائيل على وضع مراقب لدى منظمة الاتحاد الإفريقي.
ويمكن ملاحظة أن كلاً من الزيارتين اللتين قام بهما "ليبرمان ونتنياهو" في عامي 2009 و2016 على التوالي تضمن برنامج الزيارة توقف كل من الرجلين في كينيا وأوغندا وتنزانيا، وهي الدول الثلاث التي تشترك في بحيرة فيكتوريا، أحد أهم روافد النيل الأبيض، وهي ليست مصادفة؛ إذ تحتل الدول الثلاث مكانة متميزة في علاقات إسرائيل مع القارة الإفريقية.
أصبح من الواضح أن إسرائيل قد استطاعت العودة مرة أخرى إلى القارة الإفريقية بقوة هذه المرة، وتظهر نفسها على أنها دولة قوية وتستطيع أن تنافس الدول الكبرى في السيطرة ونهب الموارد المقدرات الإفريقية، وإعادة صياغة تحالفات القارة مع محيطها الإقليمي.
وبالتأكيد فإن مثل هذه التحركات الإسرائيلية تنطوي على تهديد الأمن القومي العربي، وتهديد للقضية الفلسطينية بفقدانها حلفاء تاريخيين، الأمر الذي يفرض على الأمة العربية ضرورة التحرك لمواجهة هذا الغزو الإسرائيلي لإفريقيا بشتى الوسائل.
إن الأنظمة العربية مطالبة بأن تقوم بمراجعة واعية شاملة وأمينة لجميع علاقاتها بالقارة السمراء، من أجل وضع استراتيجية جديدة يتم من خلالها الاستنفار في الإمكانيات والوسائل، بحيث يتم تجاوز شكل المعونات التي كانت تقدمها الدول العربية لإفريقيا على شكل هبات فيما مضى، ودون أن تترك أي أثر اقتصادي أو سياسي ثابت في القارة.
ويجب أن يترافق هذا المحور الاقتصادي مع تفعيل الأداء العربي على المستويين السياسي والدبلوماسي، وتنشيط دور السفارات العربية والسفراء العرب للانفتاح على الحياة العامة الإفريقية، وعلى منظمات المجتمع المدني، وإقامة حوار معها، وكذلك مساهمة العرب في حل النزاعات والخلافات العرقية والطائفية في دول القارة، وكذلك فتح أبواب الجامعات والمعاهد العربية في وجه الطلاب الأفارقة، والتبادل الثقافي معهم.
بهذه الوسائل وغيرها يستطيع العرب إصلاح الشرخ الذي حصل في علاقاتهم مع القارة الإفريقية، ومن ثم مواجهة النفوذ الإسرائيلي فيها، الذي يهدد حاضر الأمة العربية ومستقبلها وأمنها القومي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.