خارج النص:
ذكرت شبكة "بي بي سي" أن جرسَ ساعة "بيغ بن" سيتوقف ولأول مرة منذ 158 عاماً، بعد قرار البرلمان البريطاني القاضي بإيقافها لمدة 3 أعوام، اعتباراً من 2017 ولغاية 2020، بهدف إجراء صيانة ضرورية بتكلفة 29 مليون جنيه إسترليني، مع أن أجراسها لم تتعطل عن العمل طيلة قرن ونصف حتى خلال الحرب العالمية الثانية، حينما طالت الغارات الألمانية مبنى البرلمان البريطاني الذي تعتليه.
داخل النص:
لي في بغداد العراق ست عشيقات أصيلات من ربات الصون والعفاف لطالما همت بحبهن وسحرهن اﻵخاذ وسأهيم ما حييت، ست عرائس، منهن كنت وما زلت أستهلم نبض الحياة، وأستدل على حركة الزمان، وحيوية المكان، ويا لكثرة ما وقفت أمام شموخهن وشبابهن المتجدد متضائلاً، أمعن النظر طويلا ًفي حركة عقاربهن وأنصت إلى نبضهن "تك تك تك"، وﻷ أجمل سيمفونية على وجه الأرض، تلكم المعشوقات اللائي وكلما نظرت إليهن أيقنت ما قيل قديماً في عظم الوقت وأهميته، إن" أوقية من الذهب لا تشتري دقيقة واحدة من الزمن"، وقولهم:" اعتن بالدقائق وسوف تعتني الساعات بنفسها، واعلم أن قيمة الدقائق أكبر من المال فأنفقها بحكمة".
إنها ساعات بغداد التراثية الجميلة، وأولاها ساعة القشلة التي نصبت عام 1898 م، والتي كنت ألقي عليها التحية في كل يوم جمعة، وأنا خارج من مقهى الشابندر عقب أداء صلاة الجمعة في جامع الآصفية العريق المجاور للمدرسة المستنصرية اﻷعرق (مغلق حالياً ومنذ خمس سنين لخلاف بين الوقفين السني والشيعي بشأن عائديته مع أن كتب التاريخ برمتها تشهد بعائديته إلى اﻷول وﻻ شأن للثاني به ﻻ من بعيد وﻻ من قريب، والغريب أن صلاة الجمعة والجماعة وحلق الذكر قد توقفت فيه كلية بعد قرون طويلة منذ مصادرته؛ لتغرب شمسه كما غربت من قبله شمس بغداد).
ثانيها ساعتا المحطة العالمية وتعتليان برجين يرتفعان على أبواب محطة القطار المركزية، ويعود تاريخ نصبهما إلى عام 1955، وكنت أمر بهما في طريقي إلى الموصل الحدباء شمالاً وإلى البصرة الفيحاء جنوباً، تليهما ساعة مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني 1898م، وكم مرة مررت بها وضبطت ساعتي اليدوية عليها، وأجمل لحظاتي معها في رمضان؛ حيث التراويح والتسابيح وابتهالات المتصوفة التي تفيض عذوبة بنسق تهيم به الأرواح شوقاً في عالم الملكوت (يا متجلي ارحم ذلي، يا متعالي ارحم حالي، يا إلهي غيرك مالي، فأنا عبدك ربي وكلي أرجو رضاك.. الله.. الله.. الله).
وساعة بغداد في ساحة الاحتفالات التي أنشئت عام 1994، والتي استلهمت منها شهد الراوي، روايتها التي حملت الاسم ذاته، وﻻ شك أن أم الساعات وتاجها جميعاً هي ساعة جامع أبو حنيفة النعمان، التي تم نصبها عام 1958م على برج عال، وهذه تحديداً لي معها ذكريات وحكايات وحوارات وتحقيقات.
في مثل هذا اليوم من أبريل/نيسان 2003 كنت جالساً أستمع إلى اﻷخبار وأمام ناظري تمر جحافل -المحوسمين- وهي تسرق وتدمر وتعبث بمؤسسات بلادها كالجراد وتحرق كل شيء تمر عليه، وإذا بمهندسي الغزو "بوش الابن وذنبه الراقص توني بلير" يوجهان رسالة مشتركة إلى الشعب العراقي نصها: "إن العراق الجديد لن تحكمه بريطانيا ولا الولايات المتحدة بل الشعب العراقي، وإن أموال النفط العراقي ستكون أموالكم وستستخدم في توفير الرخاء لكم ولأسركم!"، واصل شايكم وبوشكم – قالها قبلكم الجنرال مود يوم دخل بغداد على رأس القوات البريطانية مستعمراً بعد عاصفة هوجاء هبت عام 1917 تماماً كتلك التي هبت عام 2003، حين قال: "جئنا محررين ﻻ فاتحين!"، فنفق بعد شربه الحليب خلال دعوة وجهت لتكريمه في مدرسة الأليانس تبين أنه حليب ملوث بالكوليرا إن لم يكن مسموماً!
فوجئت في هذا اليوم المشؤوم وتعرضت إلى صدامات عدة، كان من أبرزها ظهور أطفال صغار يحملهم آباؤهم وهم يحيون ويلوحون للمحتلين، في سابقة ﻻ نظير لها تاريخياً، شهداء مدنيون وعسكريون بالعشرات يدفنون؛ حيث قتلوا مع عبارة تكتب على أقرب جدار مجاور تتضمن اسمه ومواليده منقولة من هوية الأحوال الشخصية التي يحملها في جيبه؛ كي يتسنى لمن يعثر عليه دفنه ﻻحقاً كما ينبغي لعراقي في أرضه أن يدفن، وتعرض حبيبتي ساعة النعمان إلى قصف صاروخي جوي إيذاناً بإيقاف الحياة والزمان في عموم العراق، وقد كان؛ إذ إن استهداف الساعة بطائرات دول عادة ما تهتم بساعاتها احتراماً للوقت والتراث على حد سواء، ولعل ساعة "بيغ بن" الشهيرة التي توقف جرسها في ذات اليوم الذي قصفت فيه ساعة النعمان قبل 14 عاماً، وتحديداً في 10 أبريل خير شاهد على ذلك، بما تحمله من قيمة مادية ومعنوية وفلكلورية، له معنى كبير عندي وﻻ يمكن أن يمر مرور الكرام، القصف أعقب معارك عنيفة جرت في محيط الجامع الكبير، استمرت لساعات عدة، بدأت منذ ساعات الفجر الأولى، وأسفرت عن استشهاد العشرات دفنوا جميعهم في الرواق الخلفي للجامع، ومن ثم في حديقة مجاورة كانت متنزهاً لطالما لعبوا بين حدائقه الغناء وأشجاره الباسقة ونخيله السامقة صغاراً، ودفنوا تحت ثراه كباراً، حتى تحولت أيام الطائفية السوداء 2006- 2007 إلى واحدة من أكبر مقابر بغداد كثمرة من ثمرات "التدمير" الذي يحلو لبعض الانتهازيين والمنتفعين والفاسدين تسميته تحريراً، صحيح أن حبيبتي الساعة قد أعيد تأهيلها لاحقاً، إﻻ أن استهدافها بصاروخ عمداً ﻻ خطأ كان له معناه ومدلولاته البالغة، الظاهرة منها والمستترة وخلاصتها، وعلى حد وصف فولتير: "هناك أربع طرق لإضاعة الوقت وايقاف عجلة التاريخ؛ الفراغ والإهمال وإساءة العمل والعمل في غير وقته"، وأضيف و"تدمير الساعات التراثية أو عطلها بغير إصلاح وﻻ صيانة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.