صحيح أن خطاب 9 مارس/آذار 2011 جاء بأمور غير مسبوقة من قبيل الإصلاح الدستوري، وتقوية النظام البرلماني، وترسيخ دولة المؤسسات، وتوسيع هامش الحقوق والحريات، وفصل السلطات، وتعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، وتقوية مكانته، ومنحه صلاحيات واسعة.
وجاءت بعده الوثيقة الدستورية التي اتفق الجميع على أنها جدّ متقدمة، ثم انتخابات 25 نوفمبر/تشرين الثاني التشريعية السابقة لأوانها، التي بوَّأت حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى.
فهل كان خطاب 9 مارس مجرد إطفاء لحرائق 20 فبراير/شباط؟ أم كان تأسيساً لتوجه سياسي جديد في المملكة؟ هل أسس هذا الخطاب فعلاً لممارسة سياسية جديدة؟
صحيح أن تلك الحزمة من الإصلاحات كانت تعاملاً مختلفاً ذكياً ومسؤولاً وراقياً مع الحراك الشعبي، إذا ما قورن بتعامل كثير من الأنظمة مع مطالب شعوبها، التي اتسمت بالقوة والقمع والعنف، وتغليب المقاربة الأمنية وطغيانها.
لكنه أيضاً كان تعاملاً التفافياً على المطالب الشعبية، كان مجرد مسكّن لآلام مزمنة، ما لبثت أن عادت للظهور.
يرى المتابعون أن العدالة والتنمية بخطاب زعيمه بنكيران كان حزب المرحلة وزعيم المرحلة وخطاب المرحلة أيضاً، في واقع متلاطم، تلهبه الخطابات، وتلهمه الشعارات، فكان هدية السماء للنظام المغربي، قبلها على مضض، لكنه رأى فيها خلاصه، وفي نفس الوقت راهن على الزمن للتخلص منها، ولعل ما تسرب من وثائق ويكيليكس يكشف أي مكانة عند هذا الحزب لدى النظام.
الزمن وحده كفيل بامتصاص غضب الشارع وإنهاكه، وفي نفس الوقت توريط الحزب وإغراقه في دوامة من المشاكل، وهكذا ينتهي دوره، وتنتهي دواعي استعماله.
تتبع الجميع كيف مرَّت خمس سنوات من حكومة بنكيران، عرف فيها هزات وأزمات، لم يتوانَ الحزب في توجيه أصابع الاتهام لما أصبح يسميه بالتحكم والمرتبطين به، كانسحاب حزب الاستقلال من الحكومة بعد سنة ونصف من تشكيلها، وكالاحتجاجات التصعيدية التي خاضتها المركزيات النقابية، ضد مشاريع القوانين المتعلقة بإصلاح أنظمة التقاعد، ووجّه الحزب الاتهام لحزب الأصالة والمعاصرة، بالوقوف وراء هذه الأزمة، والأزمات التي تسبب بها بعض التكنوقراط داخل الحكومة، كالوزير بلمختار، وقضية الآمر بالصرف، التي أثار زوبعتها حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو من مكونات الحكومة، لكنه بالرغم من ذلك خلق أزمة داخلها، كادت تعصف بها، وهكذا أزمة تلو أخرى يتسبب بها وزراء من داخل الحكومة كبوسعيد وأخنوش ومزوار وحفيظ العلمي.
مع قرب انتهاء الولاية الحكومية، انطلقت حملة من التشويش على العدالة والتنمية، متنوعة الأساليب، متعددة الواجهات، وهكذا عرف المشهد السياسي تحركات مريبة، أشهرها المسيرة ضد أسلمة المجتمع، وتحركات أعوان السلطة، ثم كانت انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016، وما عرفته من خروقات، لدرجة أن وجَّه حزب العدالة والتنمية الاتهام لوزارة الداخلية.
جرت الانتخابات بما لم يشتهِه التحكم، فاز حزب العدالة والتنمية مرة أخرى، وحان وقت تنزيل حزمة الإصلاحات التي تم التأسيس لها قبل ست سنوات، خطاب 9 مارس لسنة 2011 ودستورها، وما راكمته التجربة الحكومية وأسسته.
حال البلوكاج دون ذلك، بعد أن دام خمسة أشهر، كل المؤشرات، حسب المتابعين، كانت تقول إن أدوات التحكم المتعددة والمتلونة أسهمت في هذا البلوكاج، تتبع المغاربة مهازله ومساوماته وغرائبه وطرائفه.
فجأة أبعد عبد الإله بنكيران، وفي غضون عشرة أيام كانت الحكومة قد تشكلت، بعد اختيار سعد الدين العثماني، الذي قبل بدخول أحزاب وشخصيات، بقرار وصفه بالسيادي، ضداً على الإرادة الشعبية، وصناديق الاقتراع، وخطاب 9 مارس، والدستور الجديد، بل نتذكر الخطاب الملكي، بمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء من العاصمة السنغالية (دكار) وهو الخطاب الذي تحدث فيه الملك عن الحكومة المغربية، مؤكداً ضرورة تشكيل حكومة تتوفر على كفاءات وعلى نساء ورجال في مستوى طموحات ومشاريع المغرب الوطنية والقارية والدولية بعيداً عن الحسابات السياسوية الضيقة.
الأحزاب المشكّلة للحكومة التي نراها الآن، والطريقة التي تم إقحامها في التشكيلة، لا تتوافر فيها أي صفة وأي شرط وأي معيار بمعايير خطاب دكار، وبمعايير خطاب 9 مارس، وبمعايير الوثيقة الدستورية، وبمعايير صناديق الاقتراع، وبمعايير الديمقراطية، وبمعايير الوطنية، وبمعايير الأخلاق.
كان اختيار العثماني حسب البعض؛ لأنه رجل المرحلة، وخطاب المرحلة، الذي سيقطع مع خطابات الزعامات؛ لندخل في مرحلة الهدوء والثبات، والإجهاز على كل المكتسبات، ليتضح أن حزمة الإصلاحات تلك كانت مجرد إجراء مؤقت، لامتصاص غضب الشارع.
اختيار العثماني أقفل قوساً فُتح يوم 20 فبراير 2011.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.