(في التاسع من أبريل/نيسان 2003، مثل هذا اليوم قبل أربع عشرة سنة، سقطت بغداد بأيدي المحتل الأميركي.. ونقل سقوطها بالبث المباشر إلى العالم أجمع.. هذا المقطع منقول من كتاب "ليلة سقوط بغداد" للعمري، ونقله هنا ليس مجرد استذكار للواقعة التي هزت العالم، بل للتمييز بالفرق الكبير بين أن يزيح الشعب صنمه بنفسه.. وبين أن يزاح بقوة احتلال).
عندما استيقظت، حوالي الرابعة عصراً، هرولت لأشغل المولد الكهربائي، لأعرف ماذا يدور، عندما فتحت التلفاز، على الجزيرة طبعاً، كان هناك على الشاشة ذلك المشهد الذي أعددت أدواته بدقة وحذق، لقد قصف الغزاة مكاتب الصحفيين المتفرقة، أمس، من أجل هذا المشهد، من أجل أن يأتوا جميعاً إلى هنا بالذات، وليس مهماً من يموت، وأن ييتم من ييتم، ليس مهماً إن سالت دماء أو دموع.. المهم فقط أن يتم المشهد بإرشادات المخرج الأميركي.
ساحة الفردوس أمام فندق فلسطين، بالضبط حيث كنت صباحاً.. من أجل القميص!
في المشهد كان هناك الجنود الأميركان ودباباتهم وقد انتشروا في محيط الفندق والساحة، وكانوا يتصرفون كما لو أنهم قد فتحوا عكا، على الرغم من عدم وجود أي قطعات عسكرية، أي متاريس، أي أكياس رمل حتى..
وعلى الرغم من أن المسافة بين المكان الذي (فتحــوه) والمكان الذي كانوا فيه أمس عند جسر الجمهورية هي مسافة بسيطة جداً، وأستطيع اجتيازها ركضاً – على الرغم من كرشـي – في عشر دقائق.. كانت المسافة قصيرة، وخالية من أي مظاهر عسكرية، كما لو أن الغزاة انتظروا يوماً كاملاً قبل أن يقتحموا المكان، كما لو أنهم كانوا يريدون أن يتجمع الصحفيون والمراسلون كلهم هنا، في هذا المكان.. كما لو أنهم كانوا يريدون من كل الشاشات – فـي العالــم – أن تتوحد لتنقل صورة واحدة موحدة.
افتحوا عيونكم جيداً، واستسلموا للمشهد.. ولحقائق المشهد، هل قلتم إن لديكم أملاً؟ هل قلتم إن لديكم حلماً؟
هذا المشهد سيتكفل بكم، مرّة واحدة وإلى الأبد.
انظروا ما ستفعله بغــداد الآن..
انظروا إلى كل شعاراتكم على حقيقتها..
-1-
كان هناك في الساحة بعض العراقيين، ظهروا فجأة لا أدري من أين، أود كثيراً لو أصدق أنهم ليسوا عراقيين، أود لو أصدق أنهم مجرد كومبارس مأجورين من أجل متطلبات المشهد..
أود لو أصدق أنهم جاءوا أصلاً مع قوات الغزو – عراقيين أو غير عراقيين – كما هو شائع ومتداول كمسكّن للألم يتناوله الذين يؤلمهم ما حصل.. أتمنى لو أستطيع تناوله أنا أيضاً، أصدق وأنهي الأمر.
للأسف هم عراقيون، ربما جاء بعضهم مع قيادات سياسية جاءت مع الغزو.. لكن للأسف هذا لا يمكن أن ينطبق على الجميع.
في طرف الساحة نصب، تمثال، قلت لكم إني طالما تحاشيت النظر إليه، وأقول لكم الآن إن أغلب من أعرف من العراقيين كانوا يعدونه سبب ما وصل له العراق من كوارث، وكانوا يتمنون زواله اليوم قبل الغد.
لكــن الكثيرين ما كانوا يتمنون أن يحدث ذلك تحت مظلة الغزاة.
***
كل ذلك الضغط النفسي الذي مارسته الحرب الإعلامية كان هدفه أن ننزلق جميعاً إلى واحد من خيارين: إما إلى جانب التمثال المنصوب في كل مكان، وإما إلى جانب الغزاة.
كان الغزاة يروّجون لخيار كهذا، من أجل أن ينتصر خيارهم على الخيار الآخر، وكان رأس النظام وبطانته وجهاز إعلامه يروجون لخيار مماثل، يختلط فيه التمثال بالوطن، والتمثال بالعراق، من أجل أن ينتصر خيار الوطن – المشوش بالتمثال – على خيار الغزاة.
كانا معاً يسيران بخط واحد، باتجاه واحد.. اتجاه يشغلنا عن خيار ثالث – خيار آخر..
لا غــزاة ولا طغاة.. خيـار يتجـه نحـو الوطــن.
للأسف، كثيرون وقعوا في المطب وتصوروا الخيار محصوراً بين ذلك التمثال وأولئك الغزاة، وكثيرون تحرجوا من الاختيار عندما رأوه كذلك، وفضّلوا الانتظار السلبي على الاختيار المر، البعض انجرّ إلى الدفاع عن التمثال، متصوراً أنه يدافع عن الـوطــن، والبعض سقط إلى جانب الغزاة مهاجماً التمثال، جاهلاً، أو متجاهــلاً أو لا مباليـاً أنه سيخسر الوطن، هذهِ هي حقيقة المشهد.. يوم السقوط.
نسبة كبيرة صامتة، مكممة، سالبة، تفضل الانتظار على الاختيار، متجنبة عبء الاختيار؛ لأنها تعرف أن خيارها الأصلــي والحقيقــي غير مطــروح، ونسبة لا أقول إنها قليلة، جاهلة خلطت بين الوطن والوثن تماماً، واندفعت تدافع عن التمثال – الصنم، ونسبة معتبرة، أقر أنها أكبر عدداً من سابقتها، كانت قد اختارت أن يزال التمثال ولو بأيدي الغزاة.
على هذه النسبة الأخيرة ركزت الكاميرات.
***
كان من المفترض، حسب السيناريو المرسوم بدقة، أن الصورة ستُغني عن التعليق، وكان من المفترض أن يكون السيناريو صامتاً، فقط بعض الهتافات التشجيعية من الجمهور، وإذا كان لا بد من تعليق، فلا بد أن يكون على نمط التعليق على مباريات البيسبول الأميركية، مجرد تشجيع.. لكن، كان لا بد للجزيرة أن تشاغب.. كعادتها.
***
يقال إن الصحفيين ساديون بالفطرة.
أقول: خصوصاً إذا كانوا من (الجزيرة).
وعلى تفاصيل ذلك المشهد انطلق ماهر ليعلق بسادية مفرطة الحنان، مفرطة الفهم، مفرطة الهدوء..
انطلق ماهر، وصوته يعمل كمعول هدم، لا، بل كحفّار يغوص في أعماقك، ينكأ الجروح، ينكش الوساوس.. ويعرضها عليك في عمق عينيك – في عين الشمس – في قلب العراء..
كان ذلك المشهد سريالياً جداً، غريباً جداً، مليئاً بالرموز والدلالات.. وكان ماهر يعمل مرشداً سياحياً، يفسر، ويؤرخ، وينظر..
كان سادياً بالفطرة.
وسادياً بالخبرة..
-2-
في تفاصيل السيناريو يقوم أفراد من الجمهور بتسلق ذلك التمثال، لغرض تحطيمه، أو لغرض آخر غير معروف بعد.
الهدف من هذا التفصيل هنا هو أن تعلموا أنتم، كم هم أغبياء هؤلاء العراقيون.. إنهم يحاولون تسلق التمثال الشاهق الارتفاع، الذي من الواضح تماماً أنهم لن يستطيعوا تسلقه..
لكن سيأتي الحل من الغزاة.. بالصـدفة!
كان عندهم بالصدفة طبعاً – ولا شيء غير الصـدفة – سلم عالٍ ليتسلق عليه أولئك العراقيون الذين لا يعرفون ماذا يفعلون.
ماذا كانوا سيفعلون لولا أميركا؟ وحــده الله يعلـم، لكن ماذا يفعل هذا السلم عند الأفراد الأوائل من قوات الغزو.
نعــم. ربما. لكن لا تسرحوا بعيداً في خيالاتكم التآمرية التقليدية، تفرجوا فقط وكونوا مهذَّبين وتستطيعون أن تخفضوا الصوت إذا كان ماهر يشوش عليكم بتعليقاته..
.. السلَّم إذن من تلك الدبابة التي ستبدو فجأة مثل قبعة الساحر فيها كل ما يحتاجه المرء عندما يكون في قلب مشهد سينمائي كهذا.
يتسلق على السلم اثنان من العراقيين، ثم يكملان تسلقهما بالصعود واحداً فوق الآخر وصولاً إلى القمة، إلى الهاوية..
رأس التمثال..
ستحبسون أنفاسكم ترقباً كما لو كنتم تشاهدون فيلماً من أفلام السيرك في اللحظة الحاسمة، عندما يتعلق اللاعبان بعضهما ببعض – عنـد ذلك الحبـل الرفيـع – والأسود تحت قد فتحت أفواهها.
لكن، لماذا الترقب؟ ماذا عساه أن يحدث؟ وماذا سيفعل هؤلاء وأيديهم عزلاء؟
سيقول هنا ماهر ما لن تنساه، على الرغم من قسوته، ستصادق على قوله، ستهز برأسك موافقاً..
سيقول بطريقة أقسى ما فيها برودها، بسادية أذكى ما فيها هدوؤها، بطريقة عادية تماماً.. عن هذين المتعلّقَين بعنق التمثال، إنهما الآن وحالاً لو مرَّ رأس النظام بشحمــه ولحمــه أمامهما، أمام الحشود، لهتفا له وناديا بحياته، وأكدا عبر الهتافات والأهازيج أنهما سيفديانه.. بالــروح.. وبالــدم..
كان ذلك صحيحاً إلى حد بعيد جداً، إنها النفسية التي نعرفها جيداً، التي خبرناها جيداً.. إنها نفسية التصفيق لكل منتصر.. ونفسية الهتاف لكل غالب، نفسية النعيق مع كل ناعق..
لكن رأس النظام لم يمر، لا بشحمه ولا بلحمه.. ولا بظله..
السيناريو كان يتجه باتجاه آخر..
ففي اللحظة الحاسمة، عندما وصل أحد المتسلقين إلى رأس التمثال، وحبسَ المشاهدون أنفاسهم ترقباً لما سيحدث.. ستمتد يد من أيدي الجنود الغزاة، وهي تحمل العلم الأميركي، هناك قريباً من رأس التمثال، ووضعها على الرأس..
سيذهلك المشهد، قد يجرحك، قد يصدمك، وقد يسيل دموعك..
لكن، عندما يلتف رأس التمثال بذلك العلم الأميركي، ويقف مشدوداً قائماً وقد غطى العلم الأميركي ملامح وجهه، سيخيل لك للمرّة الأولى أن نظرية المؤامرة قد كفت أخيراً عن أن تكون نظرية.. وها قد وجدت دليلها وبرهانها الساطع.. قيل عنه.. ضمن أشياء كثيرة قيلت عنه.. إنه كان عميلاً لهم في البداية ثم تمرد عليهم.. وقيل أيضاً إنه استمر في الدور وإن كل ما فعله كان جزءاً من خطة توصلهم إلى حيث وصلوا..
لوهلة.. سيبدو العلم على وجه التمثال تعبيراً عن ذلك.. كما لو كان المشهد يقول: لقد كان "رجلنا".
الصمت سيكون سيد الموقف للحظات، الجمهور الذي كان يصرخ قبل لحظات سكت وقد صدمته رؤية العلم الأميركي على التمثال، كما لو أنه فهم للمرة الأولى أن ثمة عواقب لما يصفقون له.. عواقب من ضمنها: الاحتلال.
-3-
للحظات فقط سيستمر المشهد الصادم.
بعدها، ستمتد يد لتزيل العلم الأميركي، إنهم يعرفون حساسيتكم المفرطة من الأعلام، يعرفون أهميتها بالنسبة لكم، إنكم مولعون بإحراقها في التظاهرات، ومن ثم تقومون بسحقها بأقدامكم كما لو كنتم تصدقون أنكم سحقتم الدول التي تمثلها..
الأعلام مهمة بالنسبة لكم، ولا داعي لرفع العلم الأميركي الآن، لقد جاءوا محررين لا محتلين كما تعلمون، وهذا العلم المرفوع قد يشوه ويشوش على هذهِ المعلومـة.. فلا داعي له..
سيقولون عن رفع العلم الأميركي فوق التمثال إنه خطأ غير مقصود..
ربما كان كذلك فعلاً خطأ غير مقصود.. لكن لا بأس أن تفهموا، إن فهمتم، وأن تعوا، إن وعيتم، أنه العصر الجديد وقد جاء إليكم، وأن عصر الطغاة المستبدين قد انتهى، وأن عصراً آخر قد جاء.
***
أُزيل العلم الأميركي إذن..
وأنت غارقٌ في الدهشة، سيخرج واحد من المتسلقين العراقيين علماً عراقياً من جيبه، وسط التصفيق والتهليل الجماهيري..
حسناً! ستتفهم أن الغزاة يحملون علمهم عندما يحتلون عاصمة ما.. يبدو الأمر منطقياً تماماً.
نفهــم ذلـك..
لكن ماذا يفعل العلم العراقي (بنسخته القديمة التي لم تستعمل منذ 1991)، في جيب هذا المواطن العراقي، الذي يُفترض أنه جاء بطريقة عفوية إلى هنا؟
علم بلادك قد يكون في قلبك، في عقلك، قد يكون في ضميرك وفي دفاتر أولادك، لكن أن يكون في جيبك؟ وبنسخته القديمة التي مضى عليها أكثر من عشر سنوات؟
إنه أمر لم يحدث معي ولا معكم على ما أظن.
لكن دعونا نصدق أنه قد حدث، وأن هذا المواطن قد خرج ليتمشى من منزله، ربما بعدما شرب الشاي عصر ذلك اليوم، وفي تلك الحالة شديدة الحرج من الناحية الأمنية، وقبل أن يخرج، تذكر أن يضع ذلك العلم – بنسخته القديمة – في جيبه.. ربما ينفع.
هل تصدق ذلك؟ ولمَ لا؟ مصادفات كهذهِ تحدث في الحياة، كما تحدث في الأفلام الهندية والأفلام العربية، وأيضاً في الأفلام الأميركية. وحياتنا اليوم فيلم من هذه الأفلام، فلم لا نصدق؟
هل تشمون رائحة مؤامرة ما؟
بالتأكيد، المشكلة في أنوفكم، إنها تشم المؤامرة في كل شيء، تشم المؤامرة خلف كل حدث، وماذا لو كان هذا المواطن لديه بالصدفة علم في جيبه، وبالصدفة كان هذا العلم بالنسخة القديمة دونما تلك الإضافة التي أضافها رأس النظام قبل أكثر من عشر سنوات.. لا تصدقون ذلك، تلك مشكلتكم، وسواء صدقتم أم لا، فهذا ما يحدث..
ها هو العلم العراقي، بنسخته القديمة، يعلو التمثال!
لا. ليس يعلو بالضبط، لسبب ما لن يغطي العلم وجه التمثال، فقط يلتف حول عنقه بارتخــاء..
سيعلق ماهر عن كون العلم يبدو كما لو كان ربطة عنق!..
بعدها سيحاول المتسلقون أن يربطوا ذراع التمثال، وجزءاً من جذعه بحبال – لا تدري أية صدفة جلبتها لهم – وسيحاولون جادين.. سحب التمثال.
سيستغرق ذلك وقتاً غير قصير، سيتكالبون، مواطنون عراقيون على الأغلب، على السحب والربط.. دون جدوى.
سيأتي صوت ماهر ليعلق على نواحي الركاكة والضعف في محاولات الإسقاط اليائسة..
ستنقل الشاشات ذلك بكل تفاصيله: انظروا إلى العراقيين، إنهم غير واقعيين، غير ملمين بالحقائق، إنهم خياليون، غير مدركين لحجم إمكانياتهم ولا لحجم العوائق التي تواجههم.. إنهم جاهلون، يتصورون أن بإمكانهم إزاحة ذلك التمثال الضخم – هائل الحجم – المثبت على منصة عملاقة، بمحض أيديهم.. بمحض حبال مهترئة، لا بد من مساعدتهم، لا بد من القيام عنهم بأعمالهم بدلاً منهم.
ستشاهدون ذلك، وستشهدون على ذلك..
سيعني المشهد أن العراقيين لا يمكنهم فعل شيء دون مساعدة، لا بد لأحد أن يساعدهم..
وستأتي تلك الرافعة العملاقة – الأميركية طبعاً – خارجة من نفس الدبابة؛ لتقوم بما فشل به أولئك الفاشلون.
سيقول هنا ماهر شيئاً دامياً، شيئاً سادياً مروعاً، سيقول والرافعة الأميركية تكاد تنجز في لحظات ما عجز عنه العراقيون في عقود:
"يبدو أن العراقيين لم يفشلوا في إسقاط رأس النظام وحسب، ولكنهم فشلوا حتى في إسقاط تمثاله، واحتاجوا إلى الأميركيين حتى في إزاحة تمثاله"..
صحيح يا ماهر، صحيح ما قلته، على الرغم من ساديته، على الرغم مما يبدو من وقاحته، لكنه صحيح..
ولكن، لو تعلم- وربما كنت تعلم – كيف حصل هذا الفشل، وكم جر هذا الفشل، وكم دفع العراقيون ثمناً لهذا الفشل.. آه، يا ماهر.. لعلك كنت تعلم.. أو لعلك لا تعلم.. لكن ذلك الفشل في إزاحته كان دوماً – بطريقة أو بأخرى – لأن الذين يزيلونه الآن، قامــوا بحمايتـه.
لكنك محق يا ماهر، أنت محق، لقد فشلنا في الإزاحة، رأس النظام، وتمثاله كذلك..
وها نحن مقبلون على دفع ثمن باهظ لهذا الفشل..
-4-
في لحظات، كانت تلك الرافعة تنجز العمل..
لن يسقط التمثال، بل سينكسر قرب ساقيه، وسيبدو مجوفاً من الداخل، لن يدهشك ذلك أبداً، لقد كنت تعلم دوماً أنه فارغ من الداخل وأنه هش على الرغم من صلابته المظهرية..
وبينما ستسحب الرافعة جثة التمثال، والجماهير ستنفس عن مشاعرها عبره..
سينبهك ماهر إلى شيء ربما لم تنتبه له بقية الكاميرات.
سينتبه إلى الساقين الغاطستين في المنصة، وسيقول شيئاً سادياً – كالعــادة – سيقول: ربما ستكون جذور التمثال عميقة في الإسمنت العراقي..
إنه ماهر فعلاً، هذا الماهر، ماهر في انتقاء الكلمات، في نكش الجروح، في تعرية السيناريو المرسوم بدقة، كما في الأفلام..
إنه ماهر حتى في انتقائه للصمت.. عندما يكون الصمت أقوى من الكلام.
***
لكنك مع ذلك مخطئ يا ماهر.. جذور التمثال لن تكون عميقة في الإسمنت العراقي – كما تتصور- إنها في الحقيقة عميقة فيما هو أعمق بكثير من مجرد الإسمنت.
جذور التمثال هي جذور الطغيان والاستبداد العميقة عبر العصور، العريقة عبر القرون.
جذور التمثال يا ماهر، هي نفسها دوماً، جوهرها على الأقل ثابت دوماً، تتغير التفاصيل.. تتجدد الأساليب.. لكن الطغيان يبقى محتفظاً بثوابته.. بجوهره.
تستطيع أن تسأل بغــداد عن ذلك يا ماهر، إنها خبيرة بذلك، تاريخها كله يحكي ذلك، لا تصدق أبداً أنه كان هناك عهد بلا طغيان، لا. فقط كانت هناك عهود.. تبدو بالمقارنة مع سابقاتها أو لاحقاتها أقل طغياناً.
ولعلك تعرف، يا ماهر، أننا نحن الذين نصنع من طغاتنا ما هم عليه من طغيان.. إنهم يبدأون عادة طغاة صغاراً، لن أنكر أنهم مؤهلون لذلك، لكن طغيانهم يكبر عندما يواجهون خنوعنا، خضوعنا، استسلامنا وسلبيتنا..
نعم. ليس الطغيان قصة استفراد الطغاة بشعوبهم فقط، لكنه أيضاً قصة استسلام الشعوب لذلك.. تلك هي المعادلــة يا ماهـر.
وتلك هي القصة التي تكررت على مر العصور في تاريخنا، إياك أن تتصورها حكراً على بغداد، إياك أن تتصورها حكراً على اسم حاكم واحد فقط..
إنها ثابت شديد التكرار، إنها عامل مشترك أكبر.
وبغــداد – عاصمة الخلافــة – كانت مجرد رمز لكل ذلك، تمر به كل المدن، من المحيط إلى الخليج، من الجرح إلى الجرح.. من الوريد إلى الوريد.
ليس الإسمنت العراقي فحسب، ولكن إسمنت التاريخ الذي ورثناه، إسمنت المفاهيم المتراكمة البالية التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.
إسمنت الإرث العريض من السلاطين ووعاظهم وفتاواهم ومنابرهم وجرائمهم المبررة طبعاً بفتاوى الاستبداد.. إسمنت الكرب والبلاء.
إسمنت طاعة أولي الأمر مهما كانوا، إسمنت الدعاء لأولي الأمر مهما كانوا، إسمنت الدعاء للسلطان الغالب، والدعاء على السلطان المغلوب.. إسمنت التصفيق للمنتصر، والسحل للمهزوم.. إسمنت الألقاب الرنانة، من ظل الله على الأرض، إلى الحاكم بأمره، إلى الملك المفدى، إلى الزعيم الأوحد، إلى القائد الضرورة.
إنه الإسمنت القابع في نفسياتنا جميعاً.. إنه موجود فيك، كما هو موجود فيَّ، كما موجود في المشاهدين، أولئك الذين صدقوا الوثن وآمنوا به، وأولئك الذين آمنوا أنه لن يزيحه إلا الغزاة..
الجذور فينا جميعاً يا ماهر.. عميقة فينا، عريقة فينا، وهو أمر لن يغيره إلا شيء في داخلنا، شيء ينبع من أعماقنا، شيء يفهم تاريخنا ويفقه تعقيدات تضاريسنا.
إنه شيء لن تستطيع دبابة – حتى لو كانت أميركية – أن تفعله، هذا إذا افترضنا جدلاً أنها تكترث أن تفعله.
إنه شيء علينا أن نواجهه بأنفسنا.. وأن نتحمل نتائجه بأنفسنا.. ولا شيء غير هذا.
-5-
سقط التمثال؟
كل ما فعلته من سوء، يا سيدي التمثال، كان في كفة، لكن ما فعلته الآن، عندما سلمتنا، كان في كفة أخرى.
الناس، يا سيدي التمثال، في بلدك – أقصد البلد الذي تحكمتَ بمصائر ناسه واستعبدتهم لعقود – ناس طيبون، لقد اعتادوا المغفرة، اعتادوا النسيان، اعتادوا الاعتياد على الطغيان..
أكثر من ذلك، وقد تعتبر جنابك أن تلك بلاهة ما بعدها بلاهة، إنهم اعتادوا أن يترحموا على طغاة ليست في قلوبهم ذرة رحمة، وإنهم اعتادوا أن يبكوا على طغاة طالما أبكوهم..
ناسك يا سيدي التمثال، كانوا مستعدين دوماً لأن يغفروا لك، ولسواك من الطغاة.. لقد اعتادوا على ذلك، تقولبوا على ذلك، جبلوا على ذلك.
كان من الممكن لرعاياك أن يغفروا ثراءك الفاحش، على الرغم من فقرهم المدقع.. كانوا سيقولون: إنها هيبة الدولة.. وهيبة مسؤولي الدولة.
وكان من الممكن لرعاياك أن يغضوا النظر ولو بصعوبة عن قوافل المعدومين.. المظلومين.
أولئك الذين اختطفهم زبانيتك وأودعوهم قاعات التعذيب ومن ثم ساحات الإعدام.. أحياناً، من أجل لا شيء، فقط من أجل أنهم – ربمــا – ضحكوا على نكتة تمس قداستك.
نعم، رعاياك كان يمكن أن يغضوا البصر – ولـو بصعوبــة – عن ذلك، كان هناك من سيغص.. ويتجرع العلقم.. ويقول: إنها سياسة دولة.
رعاياك كان من الممكن أن يتظاهروا أنهم نسوا تلك المقابر الجماعية، وحروب الإبادة التي مارستها ضدهم، كانوا سيفضلون الستر، كانوا سيجزون على أسنانهم ويختارون الستر.
نعم، كان يمكن لرعاياك أن يبرروا كل فظائعك وكل أخطائك، كل حماقاتك.. حتى حروبك الحمقاء التي دفع الملايين حياتهم ثمناً لها.. ستجد من رعاياك بالذات من المكتوين بنارها، من يقول: إنها ظروف دولية جرتك إلى ما فعلت، وإنه فخ نصبوه لك.. إلخ.
كان رعاياك مستعدين لتبرير كل شيء.
لكن الشيء الذي فعلته هو أنك أوغلت في كل شيء، إلى أن أوصلت شعبك إلى ما وصلوا إليه..
الشيء الذي لن تنساه الرعية، ولن تغفره الرعية – أبداً – أنك أوصلتها، أوصلت بعضها على الأقل إلى الترحيب بالغزاة.
الشيء الذي لن ينساه الشعب، أبداً، أنك – أنــت – أنت وليس غيرك.. من أوصل الغزاة إلى هنا.. إلى قلــب بغــداد.. إلى ساحة الفردوس.
كل شيء في كفة.. وهذا في كفة أخــرى.
ولا تــوازن..
وسنكتشف لاحقاً أن أسوأ ما في الأمر أن من بعدك كانوا أسوأ منك يا سيدي التمثال..
ستبدو أفضل بالمقارنة، فقط لأنهم كانوا سيئين جداً.
***
* قام صدام حسين بإضافة عبارة "الله أكبر" بين النجوم الثلاث في 1991 قبل أيام من بدء "عاصفة الصحراء" التي أخرجت الجيش العراقي من الكويت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.