منذ أن خُلقنا على هذه الأرض ونحن في صراع دائم مع البقاء، والنّضال في وجه الاستيطان والاحتلال، فنحن هنا باقون ما دامت فينا حياة، باقون بعلمنا وأسوارنا وثرواتنا وحجارتنا وترابنا، فلن تُقلع جذورنا مِن هذه الأرض؛ لأنها قطعة منا ونحن قطعة منها، تغذينا ونغذيها؛ تغذينا بعطاياها وحبها وعطفها ونغذيها بنضالنا وصمودنا ودمائنا وفلذات أكبادنا، فعشقها ليس كأي عشق عابر، كعاشق جاء يلهو مع محبوبته ويفترقان، إنما عشقها حياة وعطاء وصدق ووفاء ودماء، هذا هو العشق المُقدس الذي لخّصه الشهداء لهذه الأرض.
فمِن علامات العشق على هذه الأرض، جامعة القدس التي ما زالت ثابتة راسخة رغم كل المضايقات، فهي رمز النّضال على هذه الأرض، ففي أول يوم تعليمي لي فيها شمَمت رائحة النضال، في ذاك الحفل الذي يحدث كل عام باستقبال الطلبة الجدد "السنافر" استقبالهم بالغاز المسيّل للدموع واندلاع المواجهات، بالقرب من الجامعة حتى تتعداها إلى أن تصل إلى قلبها.
فوجودها بحد ذاته نضال مقابل ذلك الجدار اللّعين،الذي يفصلنا عن القُبة الذّهبية، ومًهما وَضعوا من جدران على هذه الأرض فستبقى أرضنا واحدة، فجامعة القدس تقع في قلب العاصمة فهي جامعة العاصمة، كما أنها أكبر دليل على جذورنا في هذه الأرض، ففيها صافحتُ شهيداً وقبّلتُ أسيراً وعانقتُ جريحاً، هي وطن مُتكامل باسمها وصرحها وطلابها ومعلميها، ومنها خرج الضّياء والمُهند والحَسن وإياد وحماد..
خرجوا ليعلمونا معنى العِشق والصّدق، لعلنا نصل إلى ثقافة عشق الأقصى والوطن كما عشقها هؤلاء الشهداء الذين صدَقوا مع أنفسهم ورموا لنا سِهام الصّدق علّها تصِل إلى قلوب بعضنا، ولنصدُقَ مع أنفسنا ونُزِيل هذا الغشاء عن أعيُننا ونعلمَ أن الحياة لا تكون كريمة إلا إذا كنا أحراراً.
وعند وجود الصدق يوجد العشق، عشق الوطن والقدس والأرض، لنكون قطعةً من هذه الأرض، ولُتملأ قلوبنا بالهمِ والتعب؛ لأن هذا العشق ليس كأي عشق عابر، إنه عشق الأرض الذي لا يقبَل إلا بالدماء مُقابل حبه، وإذا وصلنا جميعاً لهذا العشق فسنصبح أحراراً.
هكذا لخّص الشهداء معنى الصدق والعِشق، ولعلنا نصل إلى أقل درجة مما وصلوا له من صدق وعشق، ولعل حالنا يتغير ونرى ببصيرة أكثر، ويُزال عن أعيننا غشاء الرّضا بالحال والدوام على ما نحن عليه من ذل واستهجان.
هؤلاء الشهداء الذين تربّوا على مقاعد النضال في قلب جامعة النضال، وجميعهم كانت آخر كلماتهم عن القدس والأقصى، علموا جيداً أن للأقصى حرائر يُهَنّ كل يوم، فكان ردهم قاسياً على وقع الاحتلال رداً مزلزلاً في أشرف المناطق وأطهرها، رغم كل المحاولات لتهويدها، فإنهم أثبتوا أن فلسطين قطعة واحدة ومهما كان فيها من حواجز وجدران فاصلة وأشباك، فإنهم استطاعوا الوصول إلى قلب أرضنا المحتلة.
فهذا المهند في شارع الشهداء كان له بصمة من نوع آخر، بصمة عزّ وفخر وتضحية، فقد خرج من جامعة القدس لينفذ العملية البطولية في قلب القدس، أيّ صلة تربط جامعة القدس بالقدس؟! إنها صِلة العشق، صِلة الشهادة، صِلة الدماء، خرج مودِّعاً أصدقاءه وجامعته ووالد الشّهيد ضياء مُقبّلاً رأسه بعد أن ألقى كلمة حول الأسرى والأقصى وليروي بدمائه عطش تُراب القدس، فكَم اشتاقَ هذا التراب الطّاهر لمثل تلك الدماء الزكيّة العطرة!
فهذا التراب المُقدس قد رُوي بدماء أجدادنا وآبائنا وما يزال يُروى بدماء أبطالنا، وهذا الضياء الذي لم يترك مكاناً في جامعة القدس إلا وقد وُضع فيه بصمةٌ مُشبعةٌ بحب الوطن، رسم أجمل لوحة من التضحيات على هامِش هذا الوطن، ورسم الطّريق لِمن بعده من الشهداء الحسن وإياد وحماد، فجميعهم ضحوا من أجل أن يبقى هذا الوطن قطعة واحدة وقلباً واحداً وليزال هذا الورم من هذه الأرض المباركة.
فهؤلاء طُلاب جامعة القدس الأبطال الشهداء الذين سطّروا أجمل سطور العز والفخر والتضحية في تاريخ هذا الوطن، ونحن على أعتاب الجامعة نستذكر كل هذه الأحداث وهذا الصمود الشامخ لطُلاب جامعة القدس في كل يوم تشهد فيه مواجهات واقتحامات، إنهم كالسّد الحصين أمام أبوابها مُناضلين صامدين؛ لكي لا تدوسها أقدام جنود الاحتلال.
إلا أنهم أَبوا إلا أن يدوسوها ليلاً فيقتحموها كخفافيش الليل ويحطموا أبوابها وممتلكاتها كما عهدنا هذا الاحتلال الجبان في أكثر من اقتحام ليلي لجامعة القدس، وسوف تبقى هذه الجامعة شوكةً في حَلق الاحتلال ورمزاً للصّمود والتّحدي على هذه الأرض كما عهدناها دائماً، في المُقدمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.