أنا لست قاضياً لأحكم بين الناس والطوائف، كما أنني لست مؤرخاً لمرحلة من التاريخ المعاصر؛ بل إنني أكتب آراء وانطباعات قد يوافقني البعض فيها ويخالفني البعض الآخر.
إن حرية الرأي والكلمة مصونة في كل الشرائع المتحضرة، وما دفعني لكتابة هذا المقال هو ما قرأته بشأن الشيعة في العراق؛ حيث يدعي الكاتب أنهم ليسوا عرباً، ويقدم استشهادات من التاريخ لبعض الأشخاص المنتسبين للمذهب الشيعي في العراق، ولكنني أجد أن أغلبية الشيعة في العراق هم جعفرية من ذوي الأصول العربية، وهناك شبك وتركمان وكرد شيعة أيضاً، كما وجدت أن أغلب العشائر العراقية من جبور وشمر وعبيد وزبيد وبني لام،
وغيرها من القبائل العراقية العربية يختلط فيها الشيعة والسنة، وحتى عشائر الدليم منهم من قطن المناطق الجنوبية فأصبحوا من الشيعة، وكما هو معروف فإن العشائر العراقية هي بالأصل عشائر عربية مستوطنة في العراق، ومن هذا المنطلق فإننا لا يمكن أن نقول إن الشيعة ليسوا عرباً، التشيع هو مذهب إسلامي ليس له علاقة بالقومية، أو بالانتماء القومي لأي مجموعة من السكان، شأنها شأن المذاهب الأخرى؛ الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرها من المذاهب.
نحن لا ندَّعي أن الشيعة عرب من باب الفخر، فإن الانتماء القومي لا يمكن أن يعبر عن عنصرية أو نظرة فوقية تجاه القوميات الأخرى، وهذا هو العراق، يضم قوميات وأدياناً وطوائف مختلفة تجمعهم الثقافة العامة والتاريخ الواحد والعيش المشترك في وطن اسمه العراق، ولكن لماذا يتهم البعض الشيعة بمثل هذه التهم الباطلة؟
إن القيادات الإسلاموية التي حكمت العراق بعد احتلاله عام 2003 حاولت بشتى الطرق إيجاد الحجج والذرائع للاستمرار بالسلطة، فقد تبنى حزب الدعوة، وهو الحزب الرئيسي الحاكم في العراق، نظرية ولاية الفقيه، وقد كان معارضاً لها في السابق، وذلك نابع من انتهازية وصولية للاستئثار بالحكم عن طريق الاستفادة من دعم إيران التي أصبح لها نفوذ متزايد يوماً بعد يوم.
في المقابل فإن أطيافاً من العرب السنة في العراق حاولوا استغلال هذا الموقف لاستقطاب جماعتهم ولنفس الغرض، وهو الوصول إلى السلطة ثم التشبث بها؛ لما تمثله من امتيازات مادية ومعنوية، فأخذوا ينعتون الشيعة بأنهم فرس أو مجوس أو صفويون؛ ليستقطبوا جماعاتهم ومن ثم الفوز بجزء من السلطة، وكلا الجانبين له مصالحه الأنانية التي تدفعه للتوسل بكل الوسائل من أجل ضمان هذه المصالح.
ويضاف إلى هذا كله أن الجمهورية الإسلامية في إيران تطرح نفسها الدولة الممثلة للشيعة في المنطقة لتستطيع من خلالهم تحقيق مصالحها الإقليمية باسم الدين والطائفة، ونحن نعلم جيداً أن هناك صراعاً دائماً كان يدور بين السلطنة العثمانية والدولة الصفوية لاحتلال العراق، وأن استعانة إيران ببعض الفصائل من الطائفة الشيعية الآن هي لتنفيذ مآربها في التوسع باتجاه المنطقة العربية عن طريق توظيف حزب الله في لبنان، ونظام بشار الأسد في سوريا، والزيدية في اليمن، وبعض الأحزاب والميليشيات الموالية لها في العراق للاستحواذ على المنطقة من خلال مسك المنافذ البحرية في مضيق هرمز شرقاً،
وباب المندب غرباً، والبحر المتوسط شمالاً؛ ليكون مثلثاً استراتيجياً لإحكام السيطرة والتهديد في هذه المنطقة الحيوية، ولذلك فإن من مصلحة إيران أيضاً الترويج لاعتبار شيعة العراق موالين لها والدفع لإبعادهم عن محيطهم العربي، وقد ساعدها في ذلك الدول العربية، أو ما تبقى من هذه الدول عن طريق كيل التهم إلى الشيعة العرب في العراق، واتهامهم بأنهم موالون لحكومة طهران،
إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك؛ حيث إن كثيراً من الشيعة العرب في العراق تعود مرجعيتهم إلى السيد السيستاني، وبالرغم من أنه إيراني الأصل، فإنه يرفض التبعية الإيرانية، ولا يتبنى مبدأ ولاية الفقيه، وقد اكتسب مكانة مهمة في العراق من خلال التفاف الشيعة العرب حوله.
إن غالبية النخب الشيعية المشاركة في السلطة الآن، وكذلك بعض السنة موالون لإيران، لما لها من نفوذ واسع في السياسة العراقية، بل هي التي توجه في أحيان كثيرة الأحزاب التابعة لها لتكون أداة فاعلة من أدواتها في المنطقة لضمان تحقيق النفوذ القومي الإيراني الواسع باسم الطائفة والدين.
إن فشل الأحزاب والنخب الإسلامية الشيعية والسنية في إدارة دفة الحكم في العراق على مدى أكثر من أربع عشرة سنة، والفساد الذي استشرى نتيجة نهب الأحزاب والجماعات المشاركة في السلطة لميزانية الدولة، والاستئثار بالسلطة، والثروة النفطية على حساب جماهير الشعب الفقيرة التي تعيش تحت خط الفقر، خصوصاً في المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، دفعت الكثير منهم لرفع شعار محاسبة المتسببين في الفساد وسوء إدارة الدولة، ومحاكمتهم، وخرجت مظاهرات عديدة تندد بسياسة الحكومة الفاسدة هذه. وقد تسبب إخمادها الواحدة تلو الأخرى في المزيد من الإحباط لدى الأوساط العراقية عامة، والشيعية خاصة.
ونتيجة لذلك وجدنا شعارات مناهضة لإيران مثل: "إيران برَّة برَّة كربلاء أو بغداد تبقى حرة"، إن الاتجاه العربي الشيعي ظل مستمراً، رغم محاربته من قِبل الأحزاب والنخب الموالية لإيران، وإن هذا الاتجاه في تصاعد مستمر؛ لأنه يستند على أسس منطقية في تحقيق حكم نزيه عادل وشفاف يشترك الجميع في إدارته.
والعراق دولة غنية فيها من الموارد ما يجعل الفرد العراقي مرفهاً أكثر من الفرد الإماراتي، أو الخليجي عامة، إلا أن التبعية للخارج والفساد السياسي والإداري للجماعات الحاكمة من ذوي النفوس الضعيفة والوضيعة، هي التي جلبت الويلات للشعب العراقي، شيعة وسنة، كرداً وتركماناً، ولا علاقة لشيعة العراق العرب الأصلاء بهذه الحكومة، وهم ليسوا مسؤولين عن الفساد الجاري فيها، ولا يمكن أن تحسب هذه الحكومة على حساب الشيعة؛ لأن في ذلك ظلماً وبهتاناً.
وسيبقى الشيعة العرب في العراق صمام الأمان الآن ومستقبلاً لضمان حكم عادل في العراق، وسيكونون الأداة الفاعلة للثورة، أو الانتفاضة القادمة ضد الفاسدين، وهم بذلك يعيدون أمجاد أجدادهم في ثورة العشرين التي ركَّعت الإنكليز، وعلى أيديهم سيركع كل معتدٍ باغٍ أثيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.