النظرة الاجتماعية القاصرة للسياسة

عانى العراق من الأنظمة التسلطية والديكتاتورية لسنين طوال، أدت إلى حالات عديدة من الاختناق السياسي، ومن شخصيات لم تأتِ محمولة على شرعية ديمقراطية، وبعد مدة طويلة من الجهاد والمعارضة، تغير هذا النظام ليتحول إلى نظام ديمقراطي جديد، تقوده نخب سياسية كانت معارضة في السابق.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/22 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/22 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش

الجهل المجتمعي بالسياسة يشكل خطراً فعالاً على الحياة السياسية في البلاد، وبالتالي يشكل تهديداً حقيقياً للدولة، الذي يؤدي بدوره إلى تهديد حياة الفرد أيضاً، مما يسبب أزمات متنوعة تحل على البلد، وعلى ذلك توجد أمثلة وشواهد عديدة، أقربها هي ما تشهده الحياة السياسية حالياً في العراق من حالات اختناق وفشل يقودها إلى الانهيار أو الاندثار!

النظرة القاصرة لحقيقة السياسة منتشرة بكثافة في المجتمع، وعدم فهم معناها أو السعي إلى عدم ذلك، هو السبب الرئيسي لذاك الجهل، الذي سبب كل هذه المشاكل والمعرقلات التي يمر العراق بها، ويعاني منها، حيث تعد سبباً أساسياً في وصول الشخص غير المناسب إلى المكان غير المناسب، فمثلاً تربَّع الفاشلون على كرسي السلطة لسنوات متتالية، مع إثبات ذاك الفشل في كل سنة، ومع ذلك تجد الشعب يعود لانتخابه مجدداً، وتزداد شعبيته مع كل فشل يثبته، وهذا دليل واضح على تفشّي هذه الظاهرة وسيادتها في منطق أغلب المواطنين، ولولا الجهل السياسي هذا، لما كان المواطن ليخدع بعد كل خطبة أو كلمة مزيفة يدلي بها ذاك الفاشل، الذي لا يعرف إلا استغلال العواطف المذهبية والدينية أو الوطنية وغيرها، وهو لا يهدف إلا لتضليل عقل الناخب وجذبه إليه بكافة وسائل الفاشلين!

ظهرت في الآونة القريبة، ظاهرة استهداف السياسة بمعناها العام، فصِرنا نرى البعض يسميها القذرة، وبعض ينظر إليها على أنها عبارة عن عمليات احتيال وسرقة، وبعض يسمّي كل مَن يدخل مجالها بالعاهرات، وبعض آخر ينشر بعض المنشورات التي تستهدفها، كما رأيت يوماً ما تصريحاً لممثلة إباحية لا تدخل السياسة خوفاً على سمعتها، وغيرها من التفاهات والترهات والديماغوجيات الفارغة التي يتبعها ويسعى إلى نشرها المستغلون والجهلة.

لا نخفي أن الفشل السياسي الواضح يعد سبباً رئيساً لهذه النظرة، إلا أننا لا بد من أن نوضح أن المشكلة في بعض الساسة، لا بالسياسة نفسها، فمن ينظر للسياسة نظرة موضوعية صحيحة، يعلم أنها الحل الوحيد للأزمات، والطريق الأمثل لإدارة الدولة، وحتى الآن لم يكتشَف بديل أفضل منها، فلا يمكن الاستغناء عنها أبداً، فبذلك لا يوجد أمامنا إلا ظهور الأناركية، وتفشّي الفوضوية واللاسلطوية، بصورة أكبر مما هي عليه الآن، والتي ستقود الوطن للهلاك!

وبعض آخر صار يستهدف الديمقراطية، ويراها مشكلة لا حلاً، مع أن الديمقراطية هي أمل كل شعب يعاني من السياسات التسلطية والديكتاتورية، فهي تُعتبر عندهم أنها المنقذ والمنجي، وتعتبر أفضل نظام سياسي على الإطلاق، وكثير من الشعوب تنتفض لأجلها، وتقاتل وتجاهد في سبيل تحقيقها، فهي تعني حكم الشعب لنفسه، وتمثل أساساً مهماً للشعور بالحرية، وهذا ما يتفق عليه الجميع.

عانى العراق من الأنظمة التسلطية والديكتاتورية لسنين طوال، أدت إلى حالات عديدة من الاختناق السياسي، ومن شخصيات لم تأتِ محمولة على شرعية ديمقراطية، وبعد مدة طويلة من الجهاد والمعارضة، تغير هذا النظام ليتحول إلى نظام ديمقراطي جديد، تقوده نخب سياسية كانت معارضة في السابق.

في بادئ الأمر كان الأغلب متحمساً ومبتهجاً لهذا النظام الذي يحلم به الجميع، خصوصاً أن الشعب كان قد عانى ما عانى من النظام التسلطي البائد، وكان الشعب يظن أن النظام الجديد سيمتعه بحقوقه بعد أن حُرم منها!

لكن الفشل السياسي سبب تغييراً جذرياً لتلك النظرة، فصار الجميع ممتعضاً من هذه الحكومة أيضاً، ويطالب الكثير منهم دوماً بإسقاطها وتغييرها، حتى وصل الأمر الآن إلى الامتعاض من الديمقراطية، وبعض صار يتمنى بصوت عالٍ عودة الديكتاتورية ونظامها، ناسين أو متناسين ما كان يجري، وهذا أمر طبيعي بعدما شهد من النظام الحالي، وأحياناً يتحججون بحجج شبه منطقية في نظر البعض، لكنها لم تكن ولن تكون كذلك، فهي حجج عاطفية لا عقلية منطقية، لأسباب عديدة وكثيرة، منها تمكن النظام من توفير الأمن والسيطرة على عدم تفشي ظاهرة الإرهاب، لا يبيح لها القيام بدوره بدلاً عنه، والسبب الآخر هو أن المشكلة أيضاً ليست في ذات الديمقراطية، بل بسبب من يدَّعون تمثيلها ويقودون عملية الديمقراطية والسلطة بفشل مستفحل حالياً، وسبب آخر هو أننا لم نصل لديمقراطية صحيحة أو حقيقية بعد.

وجماعة أخرى تطالب بنظام رئاسي، بدلاً من البرلماني الحالي، مع أن النظام الحالي هو أفضل من الآخر بنظر المختصين، وكثير من الدول ذات النظام الرئاسي تدعو له، وتحارب سياسياً لأجله؛ لذا تبقى المشكلة متعلقة أيضاً باختيار الشعب الشخصيات التي ستمثله، لا بالنظام ذاته أيضاً، وهذه هي المشكلة الأبرز التي تتعرض لها كل الأنظمة والعمليات السياسية في العالم.

بعض من القوى السياسية الجديدة التي تهدف إلى الوصول للسلطة بطرق غير شرعية، هي من تنتفع من بث هذا الجهل في نفوس المواطنين لتستغله لصالحها، لتدعي أنها البديل لما يحدث، من دون أن تمتلك مشروعاً بديلاً أساساً، ولا حتى رؤية سياسية، ولا تملك إلا شعارات مزيفة وأكاذيب، وخرافات يمكنها أن تخدع الشعب المسكين بها.

امتعاض الجماهير، والقلق الذي يعتري أفكارها، بسبب الفشل، يؤدي أحياناً إلى تغيير فعلي إيجابي، واحياناً أخرى قد يسهم بتضخيم الأزمات واستفحالها أكثر، إن استمرار هذا الجهل يؤدي إلى استمرار المشاكل وزيادة نسبها، وعدم السعي إلى التخلص منها سيسبب الهلاك للبلاد، فلا بد من وعي سياسي نهضوي، يعيد السياسة الحقيقية لمحلها، ويسعى لإدراك وفهم المواطنين لها، فإن لم يتوافر الوعي، لن تبنى الدولة، ولن تؤسس الديمقراطية الصحيحة فعلاً، ولا استقرار يمكن أن يحل بذلك.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد