روح البتول ومعراج الأرواح

في القدس، تسكن الروح هناك.. ولكن سرعان ما تثور وتحزن، تحزن لحدود الزمان والمكان بها، تحزن للوجود المؤقت لك بها، أن هذا الجسد سوف يرحل من هنا بعد ساعات

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/08 الساعة 00:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/08 الساعة 00:59 بتوقيت غرينتش

كان تفصيل الحكاية في جوف الليل البهيم، قد جالست حزناً رامْ وصامت عن كلِّ أصناف الكلام، والرَّحم يكبرُ كلَّ يوم بالنور يبرق من جبين القنبلة، فيرتدُّ الصدى في القدس حدّ المقصِلَة، وزرَدُ السِلسلَة، ولفظ البسملَة، حتى إذا جاء المخاض ودعتْ ونادتْ في خفوتٍ:
يعرفون الوسم من شفتي ولغتي، لكنّني بالإثم مرمية، وأنا البتولُ يا ليتني كنتُ اليوم منسية.

وانتهى فصل المرارة والتعب وردَّدَت كل الأزقة: القدس حرة معتقة، القدس حبل المشنقة، ويا أيها المحتلُّ إني أنا القدسُ في جسدي عروقٌ التحمت بجذور زيتونها، وإن متُّ سأظلُّ بين ذرّات الهواء أغيظ وجودك، للعرايا والبغايا والشرور محرقة.

هكذا ينطق لسان حال القدس البتول؛ ليسبح لسان حالي باسم ملكوت الحب وينطق: إننا هكذا نحن دوماً مطروحون بأعتاب من نحب، نلثم الثَّرى الذي تسمر تحت عبق أقدامهم ونحضن كلّ الأشياء التي تنتمي إليهم ونالها من ظهورهم، خلسة كأنَّنا نريد أنفسنا ألا تصدِّق، تنتفض القلوب بمجرّد نظرة وتفرق حباً حين نلتقي!
فالحبيب علناً أذكره وأمضي ألتقط الصور لمحياه، علّني أستعيد ملامِحه في ذاكرتي المعطوبة، بعد أن أنهكت قلبي وأوصاله الحياة وشاخت تفاصيله فجأة، فجأة على مرِّ ستين خريفاً، سأتنفسه ثانية حين أمرِّغ وجهي في صدره، وأبكي وكأني للمرة الأولى أراه، سأشتم ملابسه الخضراء لأملأ صدري برائحته، أصلي وأبتهل لله أن يحفظه، وأمضي أحمل الحنين الذي يلازمني للقاء آخر.

نعم يا مسجدي.. وأنت الذي في خاطري مذ هندمت روحي ملامح وجهك المقمر من عبق القداسة، طفلتك أنا، تلقم خطاياي وتحمل عنّي وجع الوجود وتحشد على كتفي ألف منضدة للتحدّث والمكوث، وأمضي لأجلك عنك بلا كلام، وصورتك ترتسم بين ضلوعي على شغاف القلب حباً مشرقاً، وكأنّني أتوضأ برؤية قبة الجمال الطاهرة تتلألأ بشموخ! وفي ساحاتك أذعر بجناحي تنموان لأحلق، أحلق حباً وأحوم حولك فرحاً، لكنْ ندباً في نبضي يفضح دمعتي دوماً، فحين أراك ملثماً بسياج صهيون، تشتعل في صدري أنات وأنات.. وترمقني عين الحزن من كل جانب، فأسمع نشيج السجاد والمصاحف والأبواب، وألمس دمعة المنبر والقبة الرمادية وسبيل قايتباي!
فأضع كفي على صدري أبلسمه بمناجاة، أبتهل إلى الله ملياً بأن قد مللناهم وأتعبونا! كرهناهم وأسقمونا!

ولحظة الاقتراب منه، ورؤيته، تتناسى الكثير، ولكنك تشعر بغصة، تشعر أنك غريب بين كل هذا الطابع الأوروبي حوله، بين كل الغرباء الذين يتمشون به، جميع الغرباء الذين يدعون أنه لهم، وأجد كل الجنسيات هناك، فأتذكر القول (أتراها ضاقت علينا وحدنا، يا كاتب التاريخ ماذا جد فاستثنيتنا؟) فتشعر أنك مستثنى.

في القدس، تسكن الروح هناك.. ولكن سرعان ما تثور وتحزن، تحزن لحدود الزمان والمكان بها، تحزن للوجود المؤقت لك بها، أن هذا الجسد سوف يرحل من هنا بعد ساعات، قبل انتهاء الوقت الذي يسمح لك التصريح لك البقاء بها، أن كل هذه الصور وهم، أو مدبلجة أو أي شيء، أن كل الوجوه المبتسمة بالأقصى، كل الشوارع الضيقة التي مررت بها، والكعك، نسمة الهواء، تلك اللهفة والشوق، لم يستطِع لقاء واحد أن يقلل من حدته، ولكن زاد بعد هذا اللقاء، زاد شعور الحرمان بعد تجربة العيش داخل هذا الجمال لساعات، بعد تجربة ذلك الشعور.

وأرسل للسماء تحية محشوة بدعاء، فهذا اللقاء مؤلم فقط، فرحته مؤقتة، لحظية، وبعدها ستجد نفسك تحزن!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد