قبل 3 عقود، اتخذ الملك الراحل الحسن الثاني قرار الخروج من كنف منظمة الوحدة الإفريقية بعدما انضم ما سمي الجمهورية الصحراوية إلى المنظمة. قرار تحمَّل المغرب بسببه ما تحمَّل من افتقاره إلى مؤسسة قارية تسهِّل عليه أمور التعاون الدولي والاستفادة من اتفاقيات عابرة للحدود في فترة احتاج فيها الاقتصاد المغربي تقوية جذعه بعد مرور قرابة العقدين منذ الاستقلال.
ربما كان قرار الخروج صائباً، وقد يكون في الوقت نفسه قراراً متسرعاً اتُّخذ في فترة عصيبة، كان التوتر خلالها مسيطراً على المنطقة. لكن حقيقةً، المغرب لم يغادر شيئاً أبداً. فعند مغادرته سنة 1984، كانت منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك منظمة ضعيفة تضم في دهاليزها حكاماً أمسكوا زمام الأمور في بلدانهم بتزكية من المستعمر قبل الانسحاب. فكان غالبية الأعضاء ممن يلعبون في الكواليس والممرات خدمةً لصالح من يدفع أكثر. كما أن قُرب الملك الحسن الثاني من زعماء الاتحاد الأوروبي "عشَّمه " في الانضمام إلى البيت الأوروبي والذي بدا عندئذ خياراً أفضل عن مصارعة ثلة من الكارهين للمغرب.
لكن وبعد رحيل الحسن الثاني وتولي الملك محمد السادس الحكم مستهلّ الألفية الثالثة، كانت معظم دول إفريقيا تشهد تحولاً في مناصب الحكم والتحكُّم. وشئنا أم أبينا، فقد رسَّخ الأفارقة في بلدانهم نظماً ديمقراطية تؤسس للمستقبل مع زيادة الوعي بأهمية القارة كأرض خام ما زالت تكتنز الكثير من الموارد الطاقية والبشرية وبأن أبناءها أولى بها.
وفي ذلك الإطار، تمت إعادة تشكيل المنظمة القارية لتصبح منظمة الاتحاد الإفريقي أكثر تماسكاً وبقوانين ومساطر واضحة -وإن كانت الاستثناءات حاضرة بقوة- وبدأ عصر دبلوماسي جديد في القارة.
الملك الشاب تفطن إلى ذلك، فقاد في كل سنة رحلات و"فتوحات" نحو الجنوب، أدرك محمد السادس أن الشمال له ما له من تقدم وسرعة من الصعب مجاراتها، ما قد يرهق جهود البلد ويسقطه في مشاكل اقتصادية ودبلوماسية واجتماعية أيضاً. لذا، وجهت السفينة الملكية بوصلتها نحو الجنوب، وخاصة دول غرب إفريقيا، التي لطالما كان لها ارتباط وثيق بالجالس على عرش مملكة المغرب كالغابون والسنغال وساحل العاج.
لعب الملك محمد السادس على وتر ضعيف، وتر إنساني. وبالعزف عليه عبر مباشرة نحو قلوب الأفارقة شعوبهم قبل حكامهم، ولم يكن ذلك الفعل له رغبة مباشرة في الاستفادة من مؤازرة هاته الدول للمغرب؛ بل إن التأني والصبر والتصميم على ضخ الاستثمارات ورؤوس الأموال ومد يد المساعدة غير المشروطة كلما احتاجها الإخوة الأفارقة- كان خطة الملك وخطه التحريري. كما فتح أبواب المغرب على مصراعيها، فتجنب بذلك مشاكل الهجرة السرية المتجهة نحو أوروبا وسوَّى وضعيتهم القانونية، ليصبح بذلك العنصر الإفريقي فعالاً داخل المجتمع المغربي.
كما أن وفاة العقيد الليبي معمر القذافي تركت فراغاً للمنصب الروكي والقيادي الذي كان يشغله هذا الأخير في إفريقيا. فانقض محمد السادس ببصمته للاستحواذ على ميراث القذافي، بأسلوب مغاير يبتعد تماماً عن التسليح وتمويل الميليشيات والمرتزقة. بإنسانيته مجدداً، استطاع المغرب الزحف نحو قلوب دول العمق الإفريقي.
حتى إنه وفي السنين الأخيرة، بادر المغرب لمحاولة صلح مع دول طالما عسكرت مع الجزائر في الجبهة المضادة، وإن كان موقف أبناء مانديلا صارماً وكانت مساندتهم للجزائر لا مشروطة، فقد انصاعت نيجيريا لرؤية المستقبل، وعلمت أن خطط محور الجزائر جنوب إفريقيا متجهة نحو الفشل الذريع، بينما يقود المغرب قطار التنمية الإفريقية بسرعة.
وما إن استشعر المغرب دعم إفريقيا بغالبيتها له، ونجاح ما بادر إليه طيلة 15 سنة لإسقاط أعدائه في شَرَك المنطقية والعقلانية، حتى أطلق رصاصة الرحمة بالعودة غير المشروطة للاتحاد. وما موافقة 39 دولة – غير المشروطة أيضاً- والطريقة التي استُقبل بها الملك إلا دليل على أخذ المغرب زمام الأمور. وإن لم أخشَ المبالغة، فهي بيعة إفريقية للمغرب بعقلانيته وسياسته الرشيدة التي ستقود القارة نحو المستقبل. ولا عزاء للحاقدين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.