قام حد التطلعات الأعلى للحوار الوطني السوداني أن يصل إلى توافق سياسي على مرحلة انتقالية تفضي إلى الحكم الدُستوري وتمام بسط الحريّة، كما عبّر الشيخ حسن الترابي، صاحب المشروع عن تطلعه لأن تتمايز القوى السياسية السودانية المتكاثرة بمفاهيمها وبرامجها فتتواطأ على مشتركات تؤلف بينها في كيانات حزبية كبيرة، تواطأت عدة أحزاب في البلدان الغربية ذات الديمقراطيات الراسخة، لا يتجاوز عددها حزبين، واحداً حاكم، وآخر يتولى أنشطة المعارضة الضابطة للأداء السياسي.
كان التصور الذي رسمه الشيخ الترابي أن يواكب التغييرَ السياسي في بنية الحكم تغيير آخر في شكل المنظمات السياسية التي تفرق إليها "الإسلاميون" الذين دعموا الانقلاب العسكري ليلة الثلاثين من يونيو/حزيران 1989، لكنهم غير موسومين هذه المرة بصفة تميزهم "إسلاميين" دون العامة، وإنما هم تنظيم منفتح يخلف الواقع القائم إلى جبهة عريضة يتداعى إليها "الإسلاميون" ضمن آخرين من المجتمع السودان الأوسع،
لكن الرحيل المفاجئ للشيخ الترابي قوّض تلك التطلعات جميعاً، وإذ تم ابتسار مشروع الحوار الوطني إلى محض شراكة في السلطة تقوم على المحاصصة، تحت عنوان "حكومة الوفاق الوطني"، وتمتد إلى ثلاث سنوات، فإن تصوره لإقامة "التنظيم الخالف" الذي يتجاوز بأشتات الإسلاميين انقسامهم ويعبر فوقها إلى أفق جديد، أضحى كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
اتخذ إذاً المؤتمر الشعبي قراره بالمشاركة في سلطة الإنقاذ فيما تبدو قيادته عاجزة عن مواكبة خُطى الشيخ الترابي وموافاة تصوراته نحو التغيير السياسي في السلطة والتنظيم، فإن الشعبي يخوض هذه التجربة وقد خلت من قبله المثُلات؛ إذ ظل قادة نظام الإنقاذ يحملون خلقاً راسخاً في نقض المواثيق وتقسيم وتفتيت الكيانات السياسية التي تشاركهم، وهذا هو التحدي الذي ينتظر شركاءهم الجدد، كما يستدعي أن يستذكر الآخَرون ذات الوقائع التي خاضها الأولون لاقتناص النذر والعظات من سالف التجارب.
اتفاقية الخرطوم للسلام:
أقبل د. رياك مشار على توقيع اتفاقية الخرطوم للسلام (أبريل/نيسان 1997) بروح عالية من الثقة والتفاؤل والرغبة في العمل مع قادة
الإنقاذ من خلال "مجلس تنسيق الولايات الجنوبية"، الذي آلت إليه رئاسته بموجب الاتفاق، لكن نوايا د. مشار الحسنة لم تكن تُجدي في ظل تشكل محور داخل نظام الإنقاذ شديد العداء للاتفاقية، لا سيما مستشار الرئيس لشؤون السلام د. نافع علي نافع، العائد لتوه من عطالته السياسية حين باغته قرار الإعفاء من منصبه مديراً لجهاز الأمن من بعد تداعيات محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك، فيما كان يرى وزير الخارجية علي عثمان طه ألا جدوى من اتفاقية الخرطوم؛ لأن إيقاع السلام يتم مع قائد الحركة الشعبية صاحب السند الدولي والإقليمي،
وإذ انتظم وزير المالية "عبد الوهاب عثمان" ضمن محور العداء للاتفاقية، فقد رفض إمضاء الميزانية المفروضة لمجلس التنسيق، واعتذر عن دفع حقوقٍ مالية لقادة الفصائل الجنوبية المسالمة، فاشتدت المسغبة بجنودهم فعادوا يلتمسون الرزق في جولة جديدة من القتال، بينما نشطت دوائر عسكرية وأمنية في الإنقاذ تثير الفتن بين الفصائل الجنوبية وتغري بينهم العداوة؛ لتضعف الموقف العسكري لمشار، بل إن تلك الدوائر مضت تستقطب مجموعات من داخل معسكر رياك مشار فتنشئ ما عُرف بـ"القوات الصديقة" تجند لها قادة وجنوداً من قواته، وقد اعتبر مشار ذلك خرقاً بيناً للاتفاقية، وهو يستشهد بإخراج اللواء "فاولينو ماتيب" عن طاعته، وإلحاقه بالقوات المسلحة السودانية دون علمه أو استشارته.. إذاً فقد خرج د. رياك مشار معلناً انهيار اتفاقية الخرطوم للسلام.
ديكور الاتحاديين:
انتهت المبادرة السياسية التي أطلقها الشريف زين العابدين الهندي، أواسط عقد التسعينات، إلى الانقسام الأول بالحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يقوده الميرغني حين اختار الفصيل الاتحادي الذي يقوده الهندي المشاركة ضمن سلطة الإنقاذ، لكن الموت الذي غيّب الشريف الهندي وتدابير الإنقاذ سرعان ما مزقت فصيله وأغرقت قادته بالوظائف، فلم يعد له أثر ولا فعل لها سوى وجود ضعيف لوزراء ظلوا يؤدون أدواراً هامشية تتعلق بتجميل وجه النظام ضمن مجموعة باتت تعرف بأحزاب الديكور.
التغرير بمبارك الفاضل:
نحو خواتيم عام 1999 وقع نظام الإنقاذ اتفاقاً سياسياً في جيبوتي مع حزب الأمة المعارض الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي، هيأت عملية التفاوض مع حزب الأمة التي قادها مبارك الفاضل سانحة طيبة لحكومة الإنقاذ، فسرعان ما أمالت الفاضل إليها منشقاً عن المهدي ورئيساً لحزب الأمة "الإصلاح والتجديد"، قبل أن يدخل في ائتلاف وزاري مع المؤتمر الوطني في عام 2002،
تقلد خلاله منصب مساعد رئيس الجمهورية، لكن البشير سرعان ما أطاح بمبارك الفاضل بدعوى مفارقته لسياسات الدولة، وتشبث الرفاق الذين قادهم الفاضل منشقين عن الإمام الصادق بالسلطة فلم يخرجوا أو يناصروا رئيسهم ولم يغيبوا أبداً منذئذٍ عن أي تشكيل وزاري في سلطة الإنقاذ، وقد أضحى لكل وزير منهم حزب "أمّة" خاص به يتميز عن سواه بكلمة ملحقة مثل الأصل أو الفدرالي أو القيادة الجماعية.
غرر الإخوان:
وجدت جماعة الإخوان المسلمين التي يقودها الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد في مفاصلة الشيخ الترابي لسلطة الإنقاذ ديسمبر/كانون الأول 1999 فرصة طيبة لأن توطد صلاتها بنظام البشير، ودفعت الجماعة بعصام البشير لأن يكون ممثلاً لها ووزيراً للإرشاد والأوقاف في حكومة البرنامج الوطني التي تشكلت يومئذٍ، لكن الجماعة ما لبثت أن قيّمت تجربتها في الحكم واتخذ مجلس شورى الجماعة قراراً بألا يكون الدكتور عصام البشير وزيراً ضمن حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت من بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير/كانون الثاني 2005،
لكن البشير لم يطع ذلك القرار، لا سيما حين تلقى وعداً من نائب الرئيس علي عثمان طه، وعد بأن يضمن له مقعد وزارة الإرشاد، فاختار الرجل الانسلاخ عن جماعة الإخوان المسلمين والالتحاق بعضوية المؤتمر الوطني، لكن الريح لم تجر كما يشتهي البشير ولا علي عثمان الذي عاجله أحد مراكز القوى داخل الإنقاذ بضربة موجعة وغلبه على تشكيل تلك الوزارة على غير ما كان ينتظر ويخطط.
مناوي يعيد تجربة مشار:
عندما نشر الأستاذ المحبوب عبد السلام كتابه (الحركة الإسلامية – دائرة الضوء خيوط الظلام) الذي وثّق للعشرية الأولى من حكم الإنقاذ أخبره القائد مني أركو مناوي الذي كان يشغلها حينها منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية أنه حينما قرأ الفصل الذي يوثق تجربة د. رياك مشار في اتفاقية الخرطوم للسلام ذهل لتمام تطابقها مع تجربته، وكان القائد مني مناوي قد انشق عن حركة تحرير السودان ووقع اتفاق سلام مع الحكومة، في مايو/أيار 2006 بالعاصمة النيجيرية أبوجا، قبل أن يتعثر تنفيذ ذلك الاتفاق ليعود القائد إلى ميدان المعركة من جديد،
بينما ظهر بالخرطوم بعض رفاقه في الحركة تحت اسم "حركة جيش تحرير السودان – تيار الإصلاح" أعلنوا فصل القائد مني ونائبه في رئاسة الحركة فصلاً نهائياً، متذرعين بأن مناوي قرر العودة للحرب بجانب فشله سياسياً وتنظيماً فيما بدا جلياً أنهم ركنوا لسلطة الخرطوم وباتوا يتحركون بأمرها.
السيسي في المتاهة:
شهد شهر يوليو/تموز 2011 ظهور حركة التحرير والعدالة التي تم تجميع فصائلها على عجل لتوقع "وثيقة الدوحة للسلام"، كان القطريون يبحثون عن إنجاز لوساطتهم في ملف سلام دارفور فوجدوا في د. التجاني السيسي وبحر أبو قردة ضالتهم، لكن السلطة الإقليمية لدارفور التي تشكلت تحت قيادة السيسي لم تهدأ داخلها الصراعات إلى حين إعلان أبو قردة انشقاقه واستقلاله بحزب خاص، كانت تلك لحظة نصر باهرة لسلطة الإنقاذ عبّر عنها مسؤول ملف دارفور بالحكومة، وفي رده على طلب أحد الصحفيين التعليق على انقسام حركة التحرير والعدالة، قال أمين حسن عمر: "إنّ الانقسام لن يكون ذا تأثير على اتفاق الدوحة؛ إذ لم تعد هذه الحركة تمثل خطراً أو تحدياً من بعد أن أنفذت الفصل السادس الذي يتعلق بوقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية النهائية..".
كعب أخيل:
على ضوء هذه التجارب يبدو المؤتمر الشعبي مصمماً على خوض المشاركة، وقد خلت النُذُر من بين يديه، وهي تجربة لن تكون أفضل من تجارب سابقيه، فقد رحل الشيخ الترابي وترك تنظيماً مضطرباً بالصراعات والخلافات، استنفد أغراضه وانتهى دوره، وجاء أوان التحول عنه لتنظيم سياسي خالف، وهذا ما يبدو عسيراً على القيادات الماثلة اليوم في المؤتمر الشعبي، فسوى كونها قيادات على قدرٍ من الهشاشة الفكرية والسياسية، فإنها لا تحظى بإجماع، لا سيما من بعد أن أظهر بعضها تهافتاً على المشاركة في نظام ديكتاتوري يتداعى للسقوط،
وإذ التزمت المجموعات التي كانت تعارض مبدأ المشاركة في السلطة كلمة الجماعة وصف التنظيم، فإن التحدي يبقى أمام مَن اختاروا المشاركة أن لا يفتنهم شيطان السلطة كما فتن الذين من قبلهم، فلا يصبحون "كعب أخيل" الذي يؤتى من قِبله الشعبي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.