هل جربت يوماً أن تتأمل تصرفات مشتغلي القطاع العام وأنت تنتظر دورك؟ هل تبادر إلى ذهنك سؤال وجودي وآخر فلسفي عن هاته الفوضى؟ هل تنازلت مرة عن ورقة مهمة في مقابل الحفاظ على كرامتك؟ هل لعنت كل شيء وغادرت هرباً من تلك العبثية؟ إذا كانت إجاباتك إيجابية، فأنت -يا صديقي- ستفهمني عما أتحدث، وإن كان النفي فأريد أن أخبرك بأنه ليس مقالاً حول الفضائح الجنسية ولا عن كيف تكسبك مديرك في العمل. لذا، لا نأسف على الإزعاج.
في كل مرة اضطررت فيها إلى طلب ورقة من أي إدارة، كنت أعيش فيها ساعات في الجحيم.. جحيم الإهانة والتعامل معك كمواطن من الدرجة الرابعة؛ لأنك لا تعرف مديرهم وليست لك واسطة تلخص لك المسافات وتقرب البعيد والحبيب.. جحيم أن تُعامل معاملة الذباب؛ كلٌّ يطردك من موضعه ليبعثك إلى آخر، يزور مكتبه في المناسبات تحت اسم أنه بالخارج لأجل عمل، رغم أن السيد القدير لا تتعدى مهامه ملء الفراغ والإمضاء؛ مهمة مقدسة تجعله رب المكان.. جحيم أن تكون غالباً لا مرئياً بالنسبة لهم، وخصوصاً أن تثبت لهم أنك لست من أولئك الذين يطأطئون الرأس ويقبّلون الأيادي ويتمتمون بـ"سيدي" و"لالة" ودعاء الشحاذين والبؤساء.. جحيم أن يعبروك ما يشاءون إلا إنسان.
في كل مرة، وضعت تجاربي البائسة مع الإدارة المغربية جانباً وحملت نفسي متثاقلة إليهم إلا وجعلوني أكره كل شيء فيك يا وطني.. جعلوني ألعن الانتماء وكل تلك التفاهات التي أؤمن بها من سبيل التغيير وأن البلد يخطو خطاه! بالفعل، يخطو خطاه، لكن للوراء، وهذا ما أكده لي موظف حين رفض وصل أداء بطاقة مصرفية دولية بعدما أخبرته بأن القانون اليوم يأخذ بكل المعلومات الإلكترونية، فضحك كي يخبرني بأن هذا كلام الإعلام وأن لا شيء تغير منذ الاستقلال، محاولاً تخويفي بعبارات القانون كمثيل: لا اجتهاد في إطار نص قانون واضح.. فضحكت لتلك النبرة! فكأنه في مسلسل مداولة ويعلن فوزه في قضية مهمة.. لم يكن يهمني الهاتف، الذي رغم أنه يحمل اسمي العائلي ورقم هاتفي والعنوان ولم أتسلّمه رغم كل هذا! كانت القضية أكبر.. قضية أن أزور إدارة البريد سبع مرات وأن أشهد حالات خرق من القانون وألا يطبق القانون بكل جزيئاته المجهرية إلا معي!
إن الإدارة في بلدي تأخذ على عاتقها مهمة أن تجعل كل إنسان، له كرامة وعقل فيلسوف، يتساءل عن سر وجوده والجدوى من الحياة بلا بوادر حياة! ليتبادر إلى ذهني أستاذ فلسفة قرأ أكثر من اللازم عن المدينة الفاضلة يوم قال إنه بلد تخلت عنه الآلهة.. ربما كان على حق، وربما هذا شعب ضاقت منهم ذرعاً الآلهة فلعنتْهم ورحلت بعيداً عن هنا..
في كل مرة، كنت مجبَرة على أن أرى تلك الأوجه العابسة، القابلة للاشتعال إن أنت فقط اقتربت من مكتب هو لهم ملكية خاصة، وحتى مملكة يمارسون فيها تلك السلطة الصغيرة التي يمتلكونها؛ كي يعوضوا نقصاً مهولاً يعيشونه في حياتهم اليومية.. ويمارسون التسلط نفسه الممارَس عليهم من رؤسائهم ومن أزواجهم أو زوجاتهم.
إن هذا الخلل والفوضى هما سلسلة متشعبة مترابطة فيما بينها، يرجع أصلها إلى أننا اعتبرنا عملنا معروفاً وجميلاً نقدمه للآخرين، متناسين أنه واجب نأخذ مقابله أجراً، وكذا كوننا -كمغاربة أو كعرب بصفة عامة- تمارس علينا تجاوزات سلطوية تعود إلى فترات الاستعمار، حيث كانت السلطة في يد العسكر وانتقلت فيما بعد إلى خدام الدولة الأولياء على أمورنا.. تُمارس السلطة بأبشع الصور بصورة أفقية، وصولاً إلى حارس الأمن، الذي يتناسى مكانته ودوره الحقيقي؛ كي يهيم في حلم امتلاك السلطة والمعارف، فيطغى على كل طالب حق؛ لكون طالب الحق -في عُرف الإدارة- يأتي بعد الجميع..
كلما رجعت من إدارة، أحمل الغبن وغصة في القلب لوطن رضينا بفتاته ولم يرضَ إلا النيل من كل شيء فينا، حتى كرامتنا؛ آخر آمال الحياة يغتالها ونحن له مضحون.. طوبى لإدارات ما زالت تحمل عبق الماضي الاستعماري ومواطنين رضوا الذل ثمناً للعيش في وطن حتى هواؤه بات يخنق.. طوبى للحالمين بغدٍ أفضل في بلد لا يؤمن إلا بالبارحة.. طوبى للآمال الكبيرة التي كنت أحملها في الماضي وكنت أدفعها ثمناً مقابل الأوراق الإدارية.. طوبى لحياة أصرفها كي أثبت لهم أني ما زلت أموت ببطء هنا معهم كي يمنحوني شهادة حياة.. طوبى لأنا الماضي التي آمنت وآمنت واليوم بكم ألحدت.. طوبى لوطن ظنناه أماً حنوناً وإذا به امرأة أب جائرة..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.