تتأسس بعض المجتمعات على الأساطير، وبعضها يغوص بعيداً في أوهام قومية أو دينية أو ثقافية لخلق هوية متميزة، ولا يتم إدراك خطورة هذه الأوهام إلا بعدما تتحول إلى خطاب سياسي قوي وحركي؛ لتخاض به المعارك الانتخابية، وبعدها الحروب المدمرة، سواء داخل التركيبة الاجتماعية الواحدة أو ضد مجتمعات أخرى، فتاريخ الإمبراطوريات الفارسية والرومانية والنابليونية والنازية واليابانية ثم الدولة الصهيونية وغيرها، يذكرنا كل مرة بأن الإنسان يضعف أمام الأساطير التي تنفخ فيها السياسة الروحَ وتجعلها بالوناً قادراً على حمل أحلام بعض الشعوب المتأثرة بها، كما قد يتحول إلى قنبلة متحركة تنفجر في أي سماء وفوق أي أرض، دون اعتبار لمدى التقدم أو التخلف الذي تعيشه المجتمعات التي تنمو على أرضها هذه الأفكار والأحلام.
فـ"و.م.أ" التي تأسست نواتها الأولى 1776م، كانت متأثرة بقادة حرب الاستقلال ضد بريطانيا، وكانت خلفيتهم الدينية بروتستانتية وأغلبهم من المهاجرين من دول الشمال الأوروبي بحمولاتهم السياسية والفلسفية والتنويرية، مما أثَّر بشكل أساسي على الإعلان الدستوري الذي أمسى محطة بارزة وحاسمة في التاريخ الأميركي إلى اليوم.
وما يسترجعه الرئيس المنتخب دونالد ترامب من رؤى سياسية في خطاباته ومواقفه إنما هو نابع من التاريخ الحقيقي لما تخفيه الثقافة السياسية الأميركية منذ بداياتها، تاريخ أسطوري نما على صيرورة انتصارات "الآباء المؤسسين" وما خلفوه من ثقافة ومواقف سياسية، تسيج الهوية الأميركية ضد مخاطر القوميات الجديدة الوافدة وتحديات ثقافاتها العابرة للحدود، التي قد تخلخل أي بنية سبق تعبئتها وإخضاعها لمنظومة قيم وتقاليد وروابط اجتماعية وعاطفية.
وفي هذا الصدد يقول صامويل هنتنغتون في مقال له نُشر في مجلة FP عدد مارس/آذار – أبريل/نيسان 2004م: في هذه الحقبة الجديدة، فإن التحدي الأكثر مباشرة وخطورة الذي يواجه الهوية التقليدية لـ"و.م.أ"، يتأتى من الهجرة الهائلة والمستمرة من أميركا اللاتينية، وثقافة "و.م.أ" الأنجلو بروتستانتية، والعقيدة التي أنجبتها، تعرضت في العقود الأخيرة من القرن الـ20 لهجومات شعبية لعقائد التعددية الثقافية والتنوع في الدوائر الفكرية والسياسية، ورافق ذلك سواد هويات الجماعات القائمة على الجنس أو الإثنية أو النوع على الهوية القومية، وتواجه الهوية القومية لـ"و.م"، تحديا قوى العولمة، كما تحدي الاحتياجات التي تطرحها العولمة بين الشعوب، والدم المعتقد، ويتم صامويل تفسيره ذاك بطرح سؤال أساسي على حد تعبيره: هل ستبقى "و.م" دولة واحدة بلغة قومية واحدة وثقافة أنجلو بروتستانتية أساسية؟ ليعزز سؤاله بتوجيه مرتبك للقارئ له وبتنبيه يعتبره مهماً لشعبه يقول فيه: إن الأميركيين، بتجاهلهم هذا السؤال، إنما يخاطرون بتحولهم في نهاية المطاف إلى شعبين مختلفين بثقافتين مختلفتين، ثقافة أنجلوساكسونية وأخرى لاتينية، ولغتين إنكليزية وإسبانية.
وحتى لا نؤسس مقالتنا هذه على مضامين فكر صاحب كتاب: "من نحن؟ تحديات الهوية القومية الأميركية"، نستند كذلك إلى الهواجس التي أقلقت الأستاذ آلان بلوم، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة شيكاغو، والتي عبر عنها في مؤلفه:" عقم العقل الأميركي"، إذ تساءل فيه بدوره عن حالة الهشاشة التي يعرفها المجتمع والثقافة الأميركية بقوله: كيف يمكن إذاً تفسير السهولة التي تجذرت بها على أرضنا أفكار تتناقض مع المثال الأميركي؟ بعد أن تحدث بالخصوص عن الفلسفة الألمانية وكيف احتوت الثقافة الأميركية هذه الإشكالات والتساؤلات لم تكن لتظهر بهذا الشكل الصريح والمباشر في أطروحات كتبت بأنامل أساطين الفلسفة والسياسة الأميركية لولا أنها تشكل بؤرة توتر ومصدر قلق في المجتمع ووسط دوائر القرار والتفكير، وتحتضن مخاطر قد تؤدي إلى انهيار النموذج الأميركي المفعم بالكثير من المثالية.
إن الحديث عن بعث مجتمع متعدد الثقافات يتمتع فيه الجميع بنفس الحقوق، وفي بوتقة يحتضنها العَلَم والحلم الأميركي يعد مسألة مشوشة في ذهن اليمينيين الذين يَكِدُّون من أجل الحفاظ على الخلفية التاريخية التي اجتمع قادة الاستقلال من أجلها، وهنتنغتون يؤكد على شيء من هذه الحقيقة بقوله: إن على الأميركيين أن لا يسمحوا لهذا التغير بأن يحدث، إلا إذا كانوا مقتنعين أن هذا البلد الجديد سيكون بلداً أفضل، وأنه ليس هناك حلم أميركي لاتيني إن هناك حلماً أميركياً خلقه المجتمع الأنجلوبروتستانتي، المكسيكيون الأميركيون سيشاركون هذا الحلم وذاك المجتمع إذا حلموا بالإنكليزية.
إن هذا الادعاء الذي يلخص الثقافة الأميركية فيما قدمه بعض المنتمين للمجتمع وحصر دور البقية في كونهم يشكلون تهديداً بما يحملونه من موروثات ثقافية أو يجب عليهم أن يتخلصوا من كينوناتهم، وكل تاريخهم المتعدد ليسمح لهم بالمشاركة في الحلم الأميركي، يعد هذا مسألة خطيرة، واليوم سنرى أنها لم تبق ضمن ترف الفكر وهواجس مفكري المعاهد بل أمست برنامجاً سياسياً يدافع عنه البعض وينتصر له بَلْهَ خطاباً مباشراً يتبناه الرئيس المنتخب بكل ثقة واعتقاد.
ولكي نفهم جزءاً من سياسة اليمين ضد المهاجرين خصوصاً منهم اللاتينيين لا بد من قراءة توقعات بعض خبراء الدراسات المستقبلية والسياسية، التي أشار إلى بعضها هنتنغتون إذ يورد مثلاً توقعات الأستاذ تشارلز تراكسيلو من جامعة نيومكسيكو؛ إذ يقول: إنه بحلول عام 2080م، فإن الجنوب الغربي لـ"و.م.أ"، والولايات الشمالية للمكسيك ستشكل جمهورية الشمال، وهناك العديد من الكُتاب ممن بدأوا يشيرون إلى الجنوب الغربي للولايات المتحدة بإضافة إلى شمال المكسيك بكلمة مكسيك أميركا أو أمكسيكا أو مكسفونيا.
ويستمر هنتنغتون بالقول إنه يمكن على سبيل المثال قراءة ما يحصل في ميامي أكبر مدينة ذات تجمع لاتيني في "و.م.أ" الخمسين، وإسقاطه على المدن التي ستصبح مثلها في المستقبل، فعلى مدى 30 سنة، أسس المتحدثون بالإسبانية سيطرتهم على كل منحى من مناحي الحياة في هذه المدينة، بحيث إنهم غيروا بصورة جذرية تشكيلها، إن لَتْنَنَة أو هسبنة ميامي هي ظاهرة لا سابق لها في تاريخ المدن الأميركية، وهذه الولاية أصبحت من بين أهم المدن المستقطبة لرجال الأعمال اللاتينيين والكوبيين بالخصوص الهاربين من حكم فيدل كاسترو، وحول المحرك الاقتصادي الكوبي ميامي إلى محرك اقتصادي دولي، وقد حول هذا البروز ميامي إلى مدينة لاتينية يقف الكوبيون في سدة قيادتها، تتمتع بثقافتها واقتصادها الخاص بها، وبحلول عام 2000م، لم تكن الإسبانية هي اللغة المحكية في غالبية منازل المدينة فحسب، بل أصبحت اللغة الرئيسية للتجارة والأعمال والسياسة، وأصبحت وسائل الإعلام والاتصال تتحول إلى اللغة الإسبانية بصورة متزايدة، وأسس الكوبيون كذلك سيطرتهم على السياسة، فبحلول عام 1999، كان رئيس بلدية المدينة ومحافظ ورئيس الشرطة، والمدعي العام للولاية في محافظة ميامي ديد، فضلاً عن ثلثي النواب الأميركيين المنتخبين عن ميامي ونحو نصف نوابها الولائيين من أصل كوبي.
وينظر هنتنغتون إلى الكثافة الديموغرافية لبعض الأقليات بأنها تشكل خطراً، فمثلاً السيطرة الكوبية واللاتينية على ميامي جعلت الأنجلوساكسونية -كما والسود كذلك- يشعرون بأنهم أقليات خارجية يمكن تجاهلها بصورة غالبة، وكان أمامهم واحد من ثلاثة خيارات: فبوسعهم قبول وضعهم كأقلية تابعة خارجية، أو بوسعهم تبني أخلاقيات وعادات اللاتينيين ولغتهم والانصهار في الجالية اللاتينية، والانصهار الثقافي المعكوس، كما وصفه الباحثان الخاندرو بوركيز وأليكس ستيبيك، أو ترك ميامي وهو ما اختار القيام به 140 ألفاً منهم في الفترة ما بين 1983 و1993م، وقد تم التعبير عن هذا الرحيل الهائل في أحد ملصقات السيارات الذي يقول: هل لآخر الأميركيين الذين يتركون ميامي أن يحضر معه العَلم الوطني؟
هذه التحولات الثقافية والديموغرافية هي المحفز الأهم للكثير من المقولات اليمينية التي يخاطب بها اليوم المواطن الأميركي، ويقف في مواجهتها في معركة تشهد مداً وجزراً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.