تتنامى ظاهرة العولمة في عصرنا الحالي بوتيرة سريعة بفعل التقدم التكنولوجي الهائل في عدة قطاعات، مثل المواصلات والاتصال ونزوع دول العالم نحو تحرير التجارة، مما سهل اندماجها في مجال موحد مترابط في مختلف المجالات، يأتي الاقتصاد في مقدمتها؛ حيث أتاحت له حرية تبادل السلع والخدمات والرساميل بشكل مطرد لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
لعب السياق التاريخي دوراً بارزاً في هذه التحولات الاقتصادية التي شهدها العالم منذ تسعينات القرن الماضي مع زوال القطبية الثنائية بعد انهيار المنظومة الشيوعية، وتبوُّؤ الولايات المتحدة الأميركية كقطب مهيمن على جميع الأصعدة، مما جعل بعض الباحثين يصف انتصارها الأيديولوجي بنهاية التاريخ، وبكون مذهبها الاقتصادي الليبرالي الأمثل لبلدان العالم.
وهو ما جرى تسويقه فيما بعد بالاعتماد على المؤسسات المالية ومنظمة التجارة العالمية، التي لعبت دوراً مهماً في تطور الاقتصاد العالمي وتحريره من خلال إحياء مبادئ الليبرالية الكلاسيكية بمسمى جديد النيوليبرالية، كوصفة جاهزة للتغلب على المشاكل الاقتصادية، سواء بالنسبة للبلدان التي شهدت تحولاً من الاقتصاد الموجه نحو الرأسمالية، أو البلدان التي تعاني من صعوبات اقتصادية عبر عدة سياسات ليبرالية في صيغة جديدة من قبيل التقويم الهيكلي وتحرير التجارة والخصخصة.
وعلى هذا الأساس تمددت النيوليبرالية بنسختها الأنجلوسكسونية إلى بقاع متعددة في العالم كمشروع أممي يهدف إلى عولمة الاقتصاد، بعد أن شهدت انحساراً طيلة عقود القرن العشرين؛ حيث تم تحميلها مسؤولية الكساد العظيم لسنة 1929، غير أن هذا التراجع الذي أصابها سرعان ما اختفى بعد اندلاع الأزمات الهيكلية للاقتصاد العالمي في السبعينات، مما أعادها إلى الواجهة كحل ناجع لاقتصاديات البلدان الرأسمالية، وأعطى لمبادئها القائمة على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد وإخضاعه لقانون السوق، وبضرورة تصفية القطاع العام لصالح القطاع الخاص، دفعة قوية بعد أن تحررت من مختلف القيود والعراقيل.
وبالرغم من الدينامية التي بات يتمتع بها الاقتصاد العالمي، خصوصاً مع تحرير التجارة الدولية، فإنه في الجانب المقابل يطرح الكثير من المشاكل والصعوبات، لا سيما من حيث العلاقات بين الدول المتقدمة والدول النامية، ومدى الاستفادة من النمو الهائل الذي يشهده الاقتصاد المعولم الذي يتميز بانعدام العدالة في توزيع المكاسب الاقتصادية واحتكار أقلية من الرأسماليين لثروات هائلة.
وأسفر النظام الرأسمالي بذلك عن بزوغ مرحلة جديدة طابعها المميز التوحش في استغلال مقدرات الشعوب بتوظيف شعارات رنَّانة من قبيل تحرير التجارة، والتكييف الهيكلي، والخصخصة التي لم تنتج سوى العديد من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المركبة في العديد من الأقطار حول المعمورة.
بالاستناد إلى إحصائيات المؤسسات المالية فلم تشهد جل البلدان النامية التي طبقت مبادئ الليبرالية الاقتصادية النمو المنشود؛ بل زادت أوضاعها الاقتصادية سوءاً، مسفرة عن تزايد ديونها وتآكل مداخيلها المالية بعد أن جرى حصرها لخدمة مستحقاتها المالية لفائدة المؤسسات المالية الدولية، كما تعمقت الهوة بينها وبين البلدان المتقدمة؛ حيث تحولت في معظمها إلى مجرد أسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي، ومصدر للمواد الخام الرخيصة التي تحتاجها بشدة الشركات العملاقة العابرة للقارات، كتوزيع للأدوار الاقتصادية بعد أن جرى تفكيك معظم مؤسسات القطاع العام، وخصخصتها بذريعة عدم كفاءتها، ما أسهم في تراجع نموها الاقتصادي، وتكريس تبعيتها للخارج.
وتبقى الانعكاسات الاجتماعية الأخطر على الإطلاق بعد عقود من السياسات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي، فقد استفحلت معدلات الفقر والبطالة في قطاعات واسعة من المجتمع، وترسخت الفوارق الاجتماعية بين أقليات ثرية محلية مرتبطة بمصالح خارجية، وباقي الطبقات الفقيرة التي تشكل غالبية المجتمع.
وهزت هذه السياسات الاقتصادية البناء الاجتماعي بعنف؛ حيث تحولت قطاعات مهمة من الطبقات الوسطى إلى فئات محدودة الدخل، بسبب تدهور قدرتها الشرائية وارتفاع الأسعار، وتوقف الدولة عن تمكينها من الاستفادة من الخدمات الاجتماعية كنتيجة لتخلي الدولة عن دعم المواد الغذائية، أو توفير التعليم، والتطبيب المجاني، بذريعة أن الموازنة العامة تعاني من عجز حاد، وهو ما شكل حرماناً لها من الثروات الوطنية التي تصلها بشكل غير مباشر عبر الإعانات الحكومية في شكل سلع وخدمات اجتماعية مدعمة.
ساهمت النيوليبرالية في تكريس التبعية السياسية بين دول المركز المتقدمة وباقي العالم الذي تحول إلى أطراف هامشية في الاقتصاد العالمي في مشهد يعيد إلى الأذهان عصر الاستعمار، ولكن بصيغة معدلة؛ حيث حلَّت الشركات العملاقة متعددة الجنسيات محل الدول الاستعمارية في نهب خيرات وثروات شعوب العالم وحرمانها من رساميلها بنقلها للخارج بشكل مقنن عبر الاتفاقيات والمعاهدات التجارية المبرمة.
بحكم التجارب التاريخية لنتائج تطبيق الليبرالية الاقتصادية في أوروبا خلال القرنين 19 وبداية القرن العشرين وما خلفته من ثورات واضطرابات اجتماعية وكوارث الحروب العالمية، بات يلوح في الأفق خطر انبعاثها من جديد بعد وصول تيارات اليمين المتطرف في الغرب بسبب تزايد الاحتقان الشعبي من السياسات الاقتصادية المؤلمة، ومن سيطرة اللوبيات الاقتصادية على المشهد السياسي الغربي، وهو ما سيساهم في تأزيم الأوضاع بعالم مضطرب أصلاً ما لم يتم التدارك قبل فوات الأوان، عبر رد الاعتبار إلى دولة الرفاهية الاجتماعية وإعادة تأسيس علاقات بين الشعوب قائمة على التعاون والتكامل، بعيداً عن منطق المصالح الضيق.
ـــــــــــــــــــــــ
المصادر
– نذر العولمة، عبد الحي زلوم.
– الليبرالية المستبدة، رمزي زكي.
– الربح فوق الشعب الليبرالية الجديدة والنظام العولمي، ناعوم تشومسكي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.