عرف العالم في سنته المقاربة على الانتهاء العديد من الأحداث السياسية التي جذبت انتباه الجميع، سواء على الصعيد العربي أو العالمي، أحداث عرفت من الشذوذ ما عرفت، وسارت عكس تيار التوقعات والتحليلات، بل وحتى استطلاعات آراء المعنيين؛ لنكون أمام منعرج تاريخي يجسد تغير اهتمامات الجماهير من الشعوب.
عرف الغرب حدثَين عظيمَين في هذه السنة لهما ما لهما من تأثير على سير الحياة السياسية والاقتصادية في كافة أنحاء العالم، فبداية نظَّمت بريطانيا استفتاء لمواطنيها لمعرفة رغبتهم في بقاء المملكة المتحدة تحت لواء الاتحاد الأوروبي من عدمها، هو الاستفتاء الذي تعهَّد الوزير الأول ديفيد كاميرون بتنظيمه في حملته الانتخابية، وهو من أهم الوعود التي رجحت كفَّته للفوز بمنصب الرجل الأول في بريطانيا.
كان لديفيد كاميرون موقف من القضية وكان على تمام الثقة بأن الشعب سيوافقه على البقاء عضواً في الاتحاد.
كما أكدت استطلاعات الرأي المنجزة قبيل الاستفتاء أن طرح كاميرون هو الغالب في الشارع البريطاني، وأنه سيخرج من عنق الزجاجة بطلاً، لكن النتائج جاءت صادمة وخانت الوزير الأول "السابق".
صدم الشعب البريطاني العالم برغبته في الخروج من الاتحاد الأوروبي رغم كل سلبيات هذا القرار التي ستضر باقتصاد البلد وبعلاقته مع دول القارة، كما ستؤدي لانهيار حياة آلاف الجاليات البريطانية في دول الاتحاد عندما يحرمون من الامتيازات التي تقدمها لهم اتفاقيات الشراكة بين دوله، كما أن مناخ الاستثمار سيصبح ضبابياً كمناخ العاصمة لندن، وسيصبح الأمر أصعب مما كان عليه، الشيء الذي سيؤدي لهروب المستثمرين لدول أخرى.
هول الصدمة أدى بكاميرون للاستقالة لتحل محله تيريزا ماي، المرأة الوحيدة التي تحلت بالشجاعة لتحمّل مسؤولية هذه المرحلة الانتقالية، خاصة أن الاتحاد الأوروبي بدأ يضغط على بريطانيا لتسرع إجراءات الخروج في أقرب وقت ممكن.
تيريزا ماي القائدة الجديدة للسفينة البريطانية بدأت نهج الأسلوب الجديد للخطاب السياسي، الأسلوب المباشر، دون "لفّ ودوران" ولا لغة خشب؛ حيث انتشر لها مقطع فيديو عند إجابتها عن سؤال لأحد النواب عن استعدادها لاستعمال الأسلحة النووية، وإن أدى ذلك لموت مدنيين أبرياء، أجابت بنعم دون تردد ولا طرفة عين!
هذه الجرأة تجعلنا نقطع المحيط الأطلسي هناك لبلاد العم سام، تذكرنا بالمرشح الأشقر الفائز في الانتخابات الأمريكية دونالد ترامب، الملياردير الأميركي لم يتبنَّ فحسب أسلوب ماي الجريء، بل وضع قواعد له وأسساً وجعله فلسفة تثير استغراب الجميع بقدر ما تفتح أعين الكثير على الواقع الخفي.
دونالد جاي ترامب قضى أكثر من سنة ونصف في حملته الانتخابية ينشر أفكاره العنصرية المعادية للأقليات الدينية والعرقية المندمجة داخل المجتمع الأمريكي، قضى كل هذه المدة يضرب بعرض الحائط "القيم الأميركية" التي تتغنى بها من تعايش وتسامح.
ترامب هاجم من الأقليات حتى أولئك الذين خدموا جيش بلادهم وقدموا أرواحهم فداء لها، وعد بتهجيرهم وترحيلهم، وعد ببناء جدار مع المكسيك، وأن يجعلها تدفع ثمنه، وعد بمنع المسلمين من دخول البلاد، أكد أنه لا يهتم بمن يموت في سوريا طالما أنهم سيهزمون داعش، هاجم منافسته مباشرة، وأخذ ينقب تاريخ زوجها الرئيس الأسبق، وعد أن يدخلها السجن.. والكثير الكثير.
لم يدع ترامب أحداً إلا من أنساه الله إياه ورحمه من تسلط لسانه، وربما ما ساعد ترامب على ذلك أنه موَّل حملته من ماله الخاص، فلم يتدخل أحد في خطاباته، ولم يفرض عليه أحد أجندته الخاصة، تحدث بعفوية وصرح بما يختلج قلبه، ومن جديد رغم أن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي واستطلاعات الرأي وحتى المنطق كانوا ضده قبيل الانتخابات، وكان الجميع يظن أن هيلاري ستلج المكتب البيضاوي، وكان النقاش الأكبر يدور حول لقب بيل كلينتون.
استيقظ الجميع في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني على صدمة فوزه، مجدداً ضد كل التوقعات، يفوز اللامنطق وتسلط اللسان والخطاب السياسي الصادم الجريء.
وسنذكر مثالين نرصد خلالهما ما استجد على الخطاب السياسي العربي.
والبداية من المغرب، التجربة الديمقراطية الأكثر اتزاناً في العالم العربي، بصلاحيات موسعة لرئيس الحكومة وملك لا يتدخل إلا في ما عظم من القضايا، وانتخابات منتظمة كل خمس سنوات كانت آخرها في سنتنا الجارية لتعلن فوز حزب العدالة والتنمية بولاية ثانية رغم هزالة الولاية الأولى، ربما للظرفية التي تولى فيها الحزب قيادة البلاد أو لأسباب أخرى لا حاجة لتعديدها الآن.
في الحملة الانتخابية نهجت كل الأحزاب الأسلوب التقليدي الكلاسيكي، ببرامج فضفاضة وشعارات أكل عليها الدهر وشرب، ووعود لا تقدم الحلول ولا ترسم خارطة طريق للمستقبل، تخبط في الكلام وتذلل لجذب العواطف، نفس الحوار ونفس السيناريو، ومصالحة جماعية وتناسٍ لصراعات الماضي بحجة تقديم مصلحة الوطن، بينما الكل يعرف أنها ليست سوى هدنة تحسباً لظروف تجعلك تحتاج عدو الأمس حليف اليوم.
كالعادة مبالغة الأغلبية في مدح إنجازاتها وتضخيم الأرقام بمليارات الدراهم في غياب إحصائيات رسمية، وبالمثل تمييع للخطاب من طرف المعارضة واستصغار لكل ما تحقق في الولاية السابقة، وفي إطار ملل كهذا يغيب الشعب عن مكاتب التصويت، فهم يعلمون أن حضورهم من غيابهم سواء.
وفي مثال استثنائي نطير لمصر برئيسها الاستثنائي "المتمدن" عبد الفتاح السيسي:
السيسي ربما خرج من كلاسيكية الخطاب، هو مثال مضاد للغرب، مثال غريب غرابة الرجل وأفكاره، السيسي اتخذ التذلل والتسول منهجاً ورسالة، بداية من شيوخ الخليج بملياراتهم، إلى مواطن مصري بسيط لا يملك سوى "فكة" لم تعد تكفيه ليشتري حفنة رز يسد بها جوعه، ما يجعل خطاب السيسي غريباً هو أنه كان بالأمس القريب رجلاً عسكرياً تبدو على ملامحه القسوة وفي عينيه الجدية والصرامة؛ ليتحول بسرعة إلى دراج يتمسكن في كل وقت وحين، ويا ليته نفع البلد بتذلُّله، فالجنيه يعوم، والاقتصاد ينهار، والأسعار تلتهب.. كان الله في عونك يا مصري.
خلاصة الكلام أن العالم السياسي غير منهج خطابه إلى منهج مباشر بعيد عن التصنع والدبلوماسية، يبرز الوجه الحقيقي للسياسة، هذا المنهج فتح أعين الكثيرين ليتبين لهم أن التغيير فقط في الخطاب في حين أن سياسة العنصرية والقتل بدم بارد واستغلال الشعوب الضعيفة بحكامها الأغبياء لنهب مواردها وأموالها بحجة حمايتها قائمة منذ زمن، وإن خبأتها مساحيق التجميل، لكن يبدو أننا لن نستوعب الدرس إلا بعد مرور عقود، أو أننا نفهمه مقلوباً لنستمر أضحوكة في العالم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.