قرن من الزمان مضى والعراق على صفيح ساخن، تحولات عاصفة وتفاعلات ضخمة شهدتها الأنظمة العراقية، منذ نشأت الدولة في 1921 وحتى اللحظة، صراع محموم لا يكاد يهدأ وتخمد نيرانه حتى يتأجج من جديد، ظهرت آثار هذا الصراع جلياً وبصورة لم يسبق لها مثيل بعد الاحتلال الأميركي، وهو الحدث الذي ما زال يُلقي بآثاره حتى اللحظة على المشهد السياسي العراقي.
ها نحن اليوم نعيش واحداً من أقسى المشاهد حدة وقسوة، فمشكلة النظام بعد 2003 هي أنه ما زال يعد من دول منظومات الاستبداد، رغم تغيير منظومة الحكم بالكامل، والحقيقة هي أنه لم يتم تبديل المنظومة؛ بل تم استبدال الأشخاص، من "بيئة" نفس المنظومة، من دون تغيير طبيعة الأشخاص.
لهذا تبدو المشكلة هنا "مركّبة"، بمعنى أنها ليست في المنظومة وحدها؛ بل في الأشخاص الذين تربَّوا في ظل هذه المنظومة، والذين يغلب عليهم الطابع الاستبدادي على الطابع الديمقراطي، هذا إن كان فيهم شيء من الديمقراطية.
ولعل هذا يقودنا إلى القول بأن رحيل هذه المنظومة وطبيعة العلاقات القائمة وموازين القوى التي سادت في هذه الحقبة التاريخية "قدر حتمي" لا مفر منه، رغم كل وسائل الإنعاش التي قد تطيل في عمر هذه المنظومة، ورغم التكلفة الباهظة في إبقائها على قيد الحياة.
دعونا نأخذ مثالاً على ذلك، فنحن كعراقيين (سنة وشيعة) ما زلنا ننظر إلى تجارب جيراننا في المنطقة بعين الحسرة، حتى ونحن في عز تفوقنا عليهم، بمعنى أن السُّنة كانوا -وما زالوا- ينظرون إلى تجربة حكم القبائل والعوائل التي نجحت -بطريقة أو بأخرى- في حكم الدول المجاورة لنا، على أنها الترياق الذي من الممكن أن يشفي أمراضنا ويعالج مشكلاتنا. كذلك الشيعة هم ينظرون إلى تجربة فكرة "الولي الفقيه" الدخيلة على الفقه الشيعي، على أنها الحل الأمثل لإدارة الدولة، وهم يحاولون إيجاد نسخة عراقية، تجنبهم اتهامات التبعية لإيران؛ ليحذو العراقيون من بعد ذلك في استنساخ تجارب أضدادهم الفاشلة.
ولهذا تاريخياً، يتحمل العراقيون (سُنة وشيعة) فشل كل تجاربهم الديمقراطية الرائدة في المنطقة، يتحملون كل هذا الخراب، هم وحدهم.. ولا أحد غيرهم.
فلو رجعنا بالتاريخ إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى تجربة النظام الملكي، التجربة الأكثر تقدماً وتطوراً على باقي تجارب الدول المحيطة بالعراق في حينها، ففي الوقت الذي كان العراق فيه ينتخب برلمانه في الثلاثينات، كانت شعوب المنطقة ترزح تحت حكم القبائل والعساكر والديكتاتوريات، فشلت تلك التجربة بفعل مهاترات الباشا نوري السعيد -رحمه الله- وهوسه بتزعم العرب، وسجال النخبة السياسية وصراعاتها حول السلطة، وهذا الحال لا يختلف كثيراً عن حال من أتى من بعدهم، بل هم أسوأ وأتعس وأضل سبيلاً.
غايتي من هذا كله أن أبعث برسالة إلى أذهان أولئكَ الساعين أو العاملين في مهمة التوعية والتنوير، أن لا تقتصر تنظيراتهم على تأسيس منظومة جديدة "ديمقراطية" ليست لها علاقة بالاستبداد فحسب؛ بل عليهم إيجاد طروحات لإعادة ترتيب موازين القوى بما تضمن توازن العلاقات والسلطات، والتي تضمن نهاية لهذا الصراع، وهذا هو الأهم.
على أي حال، تأملوا هذه الكلمات واسترجعوا كل الأحداث الرهيبة التي مر بها العراقيون، والتي دارت – ولا تزال على مدى قرنٍ كاملٍ، أليس هو ما يحدث أيضاً مع تجربتهم بعد 2003؟ ولكن هناك سؤال آخر: ما الجدوى أن يظل الماضي حاضراً؟! أليس من أجل أن لا تتكرر الآلام ويذهب الحاضر وتضيع التجربة؟!
هذه التدوينة منشورة على موقع INP+
للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.