إن تطور أي بنية مجتمعية يتم عبر فتح خيوط تشابك الثقافات وتطوير العلاقات السائدة داخل المجتمع، بحيث تواكب جل التحولات الزمنية والمكانية، وحتى الطبيعة البشرية، فقد ظلت المجتمعات العربية لقرون هائمة وفق منهجية محددة ظلت المحدد الوحيد لسبل العيش الجماعي، فجاءت حملة نابليون على مصر بمثابة الصدمة لهذا الكيان المجتمعي؛ إذ إن ذاك الغرب المظلم الموحش صار يمتلك جل أدوات التقدم والمعرفة العلمية، وحتى الأخلاقية، واستوعب أدوات الحضارة وفكرة المدينة في أبهى حللها.
لم يكن المغرب بعيداً عن فوهة هذا الصراع، فظل لسنوات يحاول تجاوز المرحلة التقليدية، والانطلاق نحو الحداثة، وقد أثر مجموع الأحداث على ذلك، بداية بما قبل فترة الحماية، وما شاب تلك الفترة من اصطدام ما بين القوى التواقة نحو مستقبل مشع بالتقدم، متحرر من جل القيود الكابحة للإبداع البشري، والخط الديني المحافظ الذي ظل لسنوات يجتر خطب وحطب الماضي، ويسقطها على الحاضر والمستقبل، بدعوى فكرة الانحلال وتشتت القيم، مروراً بفترة الوجود الفرنسي الذي أثر بشكل كبير على البنى الهندسية لتركيبة المجتمع المغربي، لتتوالى الأحداث فتصير فترة الثورة المعلوماتية بمثابة القاعدة التي أحدثت شرخاً في سلوك الفرد، لكن هل حقاً استطاع المجتمع المغربي تجاوز مرحلة التقليد والانطلاق نحو الحداثة أو ما بعدها؟ وهل أيضاً استطاع تجاوز ترسبات الماضي؟
معظم هذه التساؤلات تطرح، لكن تظل الإجابات مبهمة وضبابية في غالبها، وهذا راجع لعدم استيعاب هذا المجتمع لمفهوم الحداثة في أصله؛ إذ إن الخطاب شيء، والواقع شيء آخر، لنسقط في تعارض العمق الخطابي والواقعي لشخصية الفرد المغربي، وتنامي فئة حراس الأخلاق باسم الدين والتقاليد والعادات.
هل فعلا تجاوزنا دونية المرأة داخل مجتمعنا؟
هل استطاع مجتمعنا الإيمان بالفرد كإنسان بعيداً عن اختلافاته الجنسية والعرقية والدينية؟
الحرية الفردية والحرية بمفهومها الشامل هل استوعبناها بشكلها الصحيح؟
هل ارتقينا من مجتمع يؤمن بفكرة واحدة إلى مكنون يؤمن بالإنسانية كأسمى تعبير عن الوجود البشري؟
إن غياب العقل النقدي أثّر بشكل كبير على تطور المجتمع وعدم استقلاليته وانصياعه لما هو خارج عنه وسلبه الفعالية النقدية وكذلك مرجعيته الفكرية الخاصة ما جعله يتأثر بالأيديولوجية السلفية المغلقة في بعدها الأسطوري غير الواقعي، بالإضافة إلى تشبثه بالأعراف والتقاليد التي تسقطه في عالم الميتافيزيقا، وتساهم في تحجر العقول وعدم استيعابها لخطاب وتحولات الحاضر، وهذا راجع بالأساس إلى عدم وضع قطيعة مع الماضي، الأمر الذي يقف عائقاً أمام انتشار فكر النور والحداثة.
فغياب ذلك التلازم أو الترابط بين ما هو مادي ومعنوي جعلنا نسقط في براثن الظلام؛ إذ إنه لم يتم تحديث المعرفة والتعليم والأخلاق والسلوك لمواكبة التحولات، ما جعل هذا المجتمع أسير الماضي ينظر بخفاء للحداثة.
لقد اقتحم التحديث حقاً البناء المجتمعي المغربي، لكنه لمس سوى ظاهره وقشرته الخارجية، ولم يستطِع النفاذ للب هذا الجسم الاجتماعي، فالحداثة والتقدم ولجا من الأبواب الخلفية، وهذا ما أحدث صراعاً أخلاقياً واجتماعياً وقيمياً داخل المجتمع المغربي، فقد تم الأخذ بماديات الحضارة والحداثة في شكلياتها من لباس وسيارات وما إلى ذلك، لكن تركنا جل القيم التي أحدثت تلك المشكلات جانباً، فصرنا مجتمعاً بأفراد بعقلية القرون الوسطى والقديمة، متأثرين بالفكر المحافظ والتقليدي، ونعيش بأدوات القرن الواحد والعشرين، وهناك نوع لم يجد نفسه لا في الحداثة ولا في التقليد، فصار هائماً بين الاثنين كل مرة يجتر خطاباً معيناً.
إن عدم تجاوز حمولات الماضي ستجعلنا لا محالة راكضين في قعر الاضمحلال الفكري والمجتمعي، وسيساهم بشكل أو آخر في نمو الفكر المتطرف، الذي لا يؤمن إلا بالعنف والقمع بكل أشكاله كوسيلة للحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.