سيطرت النظم الجمهورية المتتالية على العراق، بعد ثورة/ انقلاب 1958، حيث هيمن العسكر عليها بشكل رئيسي، لم يعد للسياسة أي دور في المجال العام، إلا من خلال العنف! فتقاليد المظاهرات التي كانت حاضرة بقوة في العهد الملكي (1921 ـ 1958)، بدأت تنحسر تدريجيا، حتى انتهت تماما، فلم يعد من حق الجمهور العمل في السياسة، او النقاش فيها، واصبحت السياسة من اختصاص الدولة والقابضين عليها حصرا. هكذا افتقر العراقيون إلى ثقافة الاحتجاج والتظاهر والاعتصام المدني السلمي على مدى عقود، في ظل قوانين تمنع "تجمهر خمسة أشخاص فأكثر في محل عام"، وتفرض عقوبات تصل إلى الحبس لمدة بين سنة وسنتين (المواد 20،21،22 من قانون العقوبات العراقي لعام 1969).
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بدأت الاحتجاجات تأخذ حيزا محدودا في الفضاء العام، مما دفع سلطة الائتلاف المؤقتة إلى إصدار الأمر رقم 19 لتقنين هذا الحق، عبر اجراءات تفرض الحصول على ترخيص مسبق لأي تجمع من سلطة الاحتلال نفسها!
ولكننا كنا أمام تحول نوعي في طبيعة التظاهر السلمي، سواء من خلال حركة الاحتجاج المدنية التي بدأت في 25 شباط/ فبراير 2011، والتي تم اجهاضها مبكرا عبر القمع المباشر، وعبر خطابات التشكيك والتحريض، واخيرا عبر تسيير مظاهرات موالية احتلت ساحة التحرير، المكان الأكثر تفضيلا لحركة التظاهر في بغداد. أو من خلال حركة الاحتجاج التي شهدتها الجغرافيا السنية (بعض المناطق في بغداد، ومحافظات الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وديالى، وكركوك)، والتي تطورت سريعا إلى حركة "اعتصام"، ودعوات إلى "عصيان مدني"، استطاعت الحفاظ على زخمها في بعض المناطق، تحديدا في الرمادي والفلوجة وسامراء، على مدى أكثر من سنة (كانون الأول 2012 ـ كانون الأول 2013)، ليتم اجهاضها بالقوة العسكرية. أو من خلال حركة الاحتجاج المدنية الثانية التي بدأت في تموز من عام 2015، والتي استطاعت هذه المرة أن تفرض على الجميع مقولة الإصلاح في بداية الأمر، خاصة بعد الدعم الصريح الذي حصلت عليه من السيد السيستاني، المرجع الشيعي الاعلى في العراق. لكن هذه الحركة سرعان ما فقدت زخمها بعد الاخطاء التي ارتكبتها عندما سمحت للتيار الصدري باستخدام حراكها المدني لتصفية حسابات سياسية، وعندما انجرت إلى التحول إلى العنف، باقتحام المنطقة الخضراء التي تضم مؤسسات الدولة العراقية التشريعية والتنفيذية، لمرتين متتاليتين. لتنتهي الحركة الاحتجاجية إلى هايد بارك يحضره جمهور محدود من الناشطين أيام الجمع اسبوعيا.
بداية من نهاية الاسبوع الماضي، كان ثمة حركة احتجاجية واسعة شهدتها مدينتا الناصرية والبصرة، جنوب العراق، كان سببها زيارة السيد نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية، إلى المدينتين. وقد اضطرت هذه الحركة المالكي إلى إلغاء زيارة ثالثة كان يفترض أن تكون لمدينة العمارة، والعودة إلى بغداد. ولم يقف الأمر عند حد التظاهر، فقد عمد المتظاهرون إلى محاصرة الأماكن التي يقيم فيها السيد المالكي، أو التي يجتمع فيها بمريديه. وقد أصدر حزب الدعوة الإسلامية الذي يشغل المالكي منصب أمينه العام بيانا "غاضبا"، وصف فيه المتظاهرين بأنهم "فئة ضالة خارجة عن القانون"، و "مجموعة مستهترة بالقانون والعرف الاجتماعي"، وأنهم "عصابة "لهم غطاء سياسي! بل وصلت لغة البيان إلى حد التهديد الصريح! بالنص على أنه: "اذا لم تتخذ الجهات القانونية الاجراءات الرادعة وعجزت عن حماية المواطنين من شرور هذه العصابات المجرمة، فهي مدعوة إلى التأهب لصولة فرسان ثانية حاسمة". وكما كان واضحا من البيان، ومن التصريحات التي أدلت بها قيادات حزب الدعوة الموالية للمالكي، فان ثمة اتهاما صريحا للتيار الصدري بأنه وراء هذه التظاهرات، ومن ثم جاء التهديد الصريح بصولة فرسان ثانية تذكيرا بالحملة العسكرية التي أمر بها المالكي ضد التيار الصدري في مدينة البصرة في آذار/مارس من عام 2008.
في المقابل كان ثمة لغة لا تقل تصعيدا من التيار الصدري، فقد كتب صالح محمد العراقي، الذي يعبر عادة عن مواقف السيد مقتدى الصدر، نصا وصف فيه المالكي بـ "المخبول"! بعد ان كان قد وصفه في نص سابق بـ "سبايكرمان" أي رجل سبايكر، تذكيرا بما جرى من إعدام مئات العسكريين على يد تنظيم الدولة في حزيران/يونيو 2014. كما أعاد فيها السردية الخاصة بالتيار حول صولة الفرسان ما كان لها ان تنجح لولا قرارا السيد مقتدى الصدر بعدم المواجهة! متهما إياه بأنه إنما سلم الموصل والأنبار ومناطق أخرى لتنظيم الدولة بلا "صولة"!
في مقال سابق تحدثنا عن "الصراع الشيعي الشيعي ونذر المواجهة"، ويبدو ان الامور بدأت تنزلق نحو المواجهة بين المالكي والصدر، بعد التهديد باستخدام السلاح! من جهة اخر، يحاول رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي ان ينأى بنفسه عن هذا الصراع، عندما اعلن ان على الجميع ان يقبل بالرأي الآخر، وأن القوات المسلحة لا يمكن أن تدخل لفض "صراع سياسي"! وهذا الموقف "المحايد" من طرفي الصراع لن يعجب بالتأكيد السيد المالكي وجناحه في حزب الدعوة، وهو ما سيؤدي إلى زيادة القطيعة بين هذا الجناح وجناح السيد العبادي، وقد يفضي في النهاية إلى انشقاق جديد في هذا الحزب الذي اعتاد الانشقاقات منذ نشأته نهاية الخمسينيات!
وتكمن الخطورة الحقيقية في تحول هذا الصراع من الخطابات الحادة، إلى السلاح، لاسيما في ظل فوضى السلاح غير المسبوقة في العراق، فالمالكي مازال مدعوما باليمين الشيعي المتطرف الذي تشكل الميليشيات المسلحة اليوم قوته الرئيسية، في حين يبقى لمقتدى الصدر رؤاه ومواقفه الخاصة، خاصة في سياق موقفه العدائي من بعض هذه الميليشيات، التي سبق له ان أسماها بالميليشيات الوقحة!
من ناحية أخرى، يقوض هذا الصراع أية إمكانية للحديث عن "تسوية"، فهو صراع مرشح للتصاعد، لن يتيح الحديث عن موقف موحد للتحالف الوطني من مسألة جوهرية تتعلق بالتسوية، وعلى الأغلب سيتم استغلال هذه القضية للمزايدات الشعبوية، وهي المزايدات التي بدأها جناح المالكي وحلفاؤه بعد الاعلان عن مبادرة التحالف الوطني للتسوية مباشرة، بل ان السيد المالكي، الذي وقع بنفسه على المبادرة، كان طرفا في هذه المزايدات عبر لقاءاته الجماهيرية والتلفزيونية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.