ربما من باب الإقرار على النفس بأن العراق يسير نحو الهاوية، أن يطرح التحالف الوطني تسوية وصفها بالتاريخية بين مكوناته الرئيسة الثلاثة: الشيعة والسُنة والكرد، فالكتل السياسية ليس غريباً عليها طرحُ تلك التسويات والمبادرات كنوع من تمضية الوقت والضحك على الذقون وهذا ما أثبتته التجارب السابقة، فلا يمكن أن نفهم تلك التسوية بعيداً عن السياق والماضي، فلا بد أن نصطحبهما ليكونا دليلَيْن لنا في فهم الحاضر.
كل ما جرى بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 كان عبارة عن تسويات ومبادرات لحل الأزمات وهي في الحقيقة عمّقت الأزمات وزادت من الهوّة بين الكتل السياسية المنقسمة على نفسها، فضلاً عن انعدام الثقة الذي حصل بعد كل تلك التسويات والمبادرات، حيث سمعنا مصطلحات: التسوية، والمبادرة التاريخية، والوثيقة، والطاولة المستديرة، والمصالحة الوطنية حيث لا وطنية!
في عام 2010، كانت مبادرة الطاولة المستديرة بزعامة عمار الحكيم، وتمخّض عنها حكومة نوري المالكي الثانية التي سلّمت العراق 15 محافظة لحكومة العبادي، بعد أن احتل "داعش" محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، وعلى ذلك فكل ما حدث في تلك الفترة يتعلق بمبادرة الطاولة المستديرة.
الأدهى، أن التسوية تلك التي يعتزم "التحالف الوطني" طرحها تستند إلى وثيقة سابقة للسِّلم الأهلي كان قد أصدرها زعيم "المجلس الأعلى" عمار الحكيم العام الماضي. فإذا كان الأصل -وهو الوثيقة التي لم تفعل شيئاً، فكيف ستبنى عليها تلك المبادرة، إذا كان الأصل هشّاً فكيف بالبناء؟!
وبحسب ما تسرب من المبادرة السياسية، فإن "التحالف الوطني" يبحث عن شريك سني، أو على الأقل واجهة سنية لإجراء المصالحة معها، بغض النظر عن تلك الجهة ومدى قوّتها وتمثيلها للمكون السني، الذي من الصعب في الحقيقة أن نقول إن الكتلة أو الحزب الفلاني ممثلاً حقيقياً لسُنة العراق.
لكن حسب المعلَن من قِبل المجلس الأعلى الإسلامي، فإن الأمم المتحدة تعهدت بإيجاد جهة سنية موحدة لتمثيل المكون، وهذه الجهة في الحقيقة غير معلن عنها لغاية الآن، لكن الأمر سهلٌ على الولايات المتحدة، وصعبٌ على المكون السني أن يكون له ممثلٌ واحد أو جبهة واحدة لاختلاف مشاربه وأفكاره وتوجهاته الدينية والوطنية، فهناك من يؤمن بالعملية السياسية وهناك من لا يؤمن، فضلاً عن التوجهات الدينية التي تنعكس على الواقع السياسي وتشكل رؤيتهم له.
لذلك، أعتقد أن إيجاد جبهة أو جهة حقيقية من المستحيلات أو من الصعوبة بمكان، لكن ربما تجري تسوية أو تصدير وجوه جديدة للسُنة على أنهم يمثلونهم. وفي الحقيقة، سنة العراق يحتاجون إلى ثورة وجوه جديدة تكون قد أخفت الوجوه التي سيطرت على المشهد السياسي منذ فترة ما بعد الاحتلال ولم تستطع التفاعل الحقيقي بين المكونات الباقية وأن تجد لها تحالفات سياسية حقيقية.
وعلى ذلك، فسنة العراق يحتاجون إلى تغيير وجوه أو ثورة وجوه، ومن المتوقع أن تكون هناك طبخة جديدة لإظهار وجوه سنية جديدة بعد أن فشلت تلك الوجوه أو أُفشلت وأُبعدت وأُقصيت واعتُقلت في السجون بتهم الإرهاب. لكن في المحصلة، الجمهور السني سَئِمَ من تلك الوجوه؛ لأنها عايشت أقسى فترة مر بها العرب السنة ربما منذ قرن على الأقل، وهي فترة النزوح والهجرة وتدمير البنى التحتية للمحافظات، مما شجع بعض السياسيين في تلك الفترة العصيبة على تقديم أنفسهم إلى الجمهور السني، ويحق لكل أحد أن يفعل ذلك ما دام بوسعه.
وهذا ما سعى له التاجر العراقي خميس الخنجر، الذي برز في الفترة الأخيرة بأعماله الإغاثية للنازحين في أربيل والمحافظات الشمالية من خلال عمل مؤسساتي، ومساعدة الطلبة وإرسالهم إلى الخارج على نفقته، فضلاً عن العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن ودول الخليج عموماً في الخارج، وقائمة متحدون بزعامة أثيل النجيفي وبعض الشخصيات الأخرى المؤثرة في الداخل، وهو ما يؤهله للظهور بتحالفات جديدة كوجه سني بارز في الساحة السنية، خصوصاً إذا ما علمنا أن المناخ مهيأٌ لذلك، سياسياً واقتصادياً، حيث تشير التسريبات إلى وجود صفقات سياسية مقبلة بين أسامة النجيفي زعيم كتلة متحدون والأمين العام للمشروع العربي خميس الخنجر الذي كان داعماً أساسياً للقائمة العراقية بزعامة إياد علاوي، فضلاً عن إيمانه وترويجه لقضية الأقاليم على أساس مناطقي وليس مذهبي، يعني إقامة الأقاليم للمحافظات بجميع مكوناتها كنوع من تقسيم الصلاحيات وليس أقاليم شيعية وسنية.
وهذا الطرح صار مقبولاً لدى الشارع العراقي، خصوصاً بعد تلك السنين العجاف وما رافقها من تطورات وتشابك الأحداث وتأثير بعض المدن على أخرى.
وإذا اتجهنا إلى رؤية التسوية "الحكيمية" للمشاكل بين بغداد وأربيل السياسية والاقتصادية ومنذ عدة سنوات، فسنجد هذا الملف غائباً تماماً عن نقاط التسوية التي لم تطرح أبداً أي اقتراح بشأن العلاقات مع الإقليم والمستقبل السياسي للمناطق المتنازع عليها، أو حلها، ولمَ لا؟ وهذا في حقيقة الأمر يقتل التسوية قبل ولادتها أو يجعلها تُولد مشّوهةً محكومةً بالفشل الذريع، بناء على تجارب سابقة تجاهلت عمق المشاكل الحقيقية، واتجهت نحو الأمور الشكلية وعقد المؤتمرات والندوات.
لا نريد الحكم مسبقاً على شيء سيُطرح في المستقبل، لكن المعطيات تشير إلى اتجاه واحد فقط، أضف إلى ذلك كثرة اللاءات في التسوية المعتزم طرحها، حيث توسعت دائرة المبعَدين جداً، وهذا في حقيقة الأمر لا يصب في مصلحة البلد أو مصلحة أي أحد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.