في أحايين كثيرة يجد المرء في المغرب صعوبة بالغة في فهم واستيعاب فكرة لماذا لا تريد أطراف من داخل السلطة أن تفهم بعد أن الأشياء قد تغيرت فعلاً؟ وأن ما كان جائزاً ذات يوم أصبح في الوقت الحالي من الكبائر والمحرمات السياسية التي يمنع منعاً كلياً العودة إليها.
فبعد كل هذه السنوات لم تقتنع الأحزاب الرافضة للتطور والإصلاح في هذا البلد أن الأمور لا يمكن أن تعود فعلاً إلى الوراء، وأن المواطن اتخذ قراره بشكل لا رجعي وهو أن زمن "البصراوية" انتهى وتم دفنه، وأن ما تصبو إليه هذه الجهات وترجوه هو ضد مشيئة التاريخ وضد سنة الحياة نفسها.
فبعد أكثر من أربعين يوماً والبلد يعيش دون حكومة ولا برلمان قائم، ومنذ أكثر من أربعين يوماً وإدارة مصالح البلد الأساسية متوقفة، وبعد أكثر من أربعين يوماً وخزينة البلد تتحمل تكاليف مالية ضخمة هي في غنى عنها في عز الأزمة والحاجة لكل درهم منها؛ لكي نصل لحد الكفاف فقط في إدارة البلد.
فحزب حاصل على أزيد من ثلثي عدد المقاعد وما يزيد من التي تلزمه لتشكيل حكومة، وكان يلزمه أقل من الثلث فقط، وكانت الأمور ستسير بشكل عادي بما يحترم أدنى أسس الممارسة الديمقراطية كما هو مفترض فيها بشكل بديهي كما يحدث في أي بلد في العالم، يقول إنه "ديمقراطي"، وبالطبع لإكمال النصاب القانوني كان من الضروري الاستعانة ببعض الأحزاب الأخرى في إطار تحالف حكومي، وفي ظل شروط تتفق عليها الأطراف بعد ذلك.
لكن الذي حدث أن أطرافاً داخل الدولة لم يرقها ما جاءت به نتائج صناديق الاقتراع، ولم تستسغ كيف لحزب "إسلامي" لا يخضع "كلية" للمخزن ويسعى لتكوين سلطة مستقلة عن تلك الجهات التي تملك السلطة الحقيقية، ونتيجة لذلك فكما رأته هذه الأطراف كحل لمواجهة هذا الحزب وظفت كل إمكاناتها المتاحة للحيلولة دون نجاحه رغم أنه الأول في الانتخابات من تشكيل حكومته.
ضد كل الأعراف السياسية وضد كل المبادئ والبديهيات التي تدخل في أسس الممارسة الديمقراطية تتدخل هذه الجهات بشكل مفضوح وصارخ وتمد يدها الطويلة وتصدر أوامرها العليا "لطابورها الخامس" من الأحزاب الإدارية بالخصوص بحظر أي تعامل أو تحالف مع هذا الحزب، حتى يعود إلى "بيت الطاعة"، ويقبل بشروطها التي لا يمكن لأي شخصية سياسية تحترم نفسها وتملك قدراً من عزة نفس بقبولها.
كان يمكن أن نسلم بالأمر على كونه مجرد خلاف سياسي عادي بين أحزاب بأهداف وتوجهات سياسية مختلفة وبرامج متفاوتة، لكن التجربة السياسية المغربية بينت بما لا يدع مجالاً لأي شك أن "أحزاب الإدارة" ليست أحزاب نفسها ولم يكن يوماً القرار قرارها، وما أنشأها المخزن إلا لخدمته؛ لذلك كانت دائماً ولا تزال تشتغل بمنطق الهاتف والأوامر من أطراف داخل السلطة، وهذا ما يجعلنا على يقين بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الأزمة حالياً هي من صنع السلطة وأطراف من المخزن ولأهداف في نفسهما.
فالمسألة إذاً ليست ذات علاقة بخلاف في البرامج أو في التوجهات التي ستكون عليها سياسة الحكومة أو ما شابه، لكن الأزمة المفتعلة في حقيقتها هي على علاقة بوجود أحزاب غير مطلوب منها أن تكون مستقلة وبقرارات ذاتية بعيداً عن مقص الرقيب.
لذلك فالثمن الحقيقي لعرقلة إخراج الحكومة للوجود، ليس في التكلفة المالية لانتخابات جديدة أو شيء من هذا القبيل، ولا حتى في المخرجات المختلفة التي يراها البعض حلولاً للخروج من الأزمة، لكن الثمن الأكبر هو في تفويت الفرصة التاريخية للبلد للقطيعة مع سلوكيات وممارسة لا تزال قائمة في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية فقط، تكلفة تسعى لإرجاع البلد سنوات وسنوات؛ حيث تلك الفترة التي لا حركة ولا سكون إلا بإذن المخزن.
نعتقد أن الملك ليس المطلوب منه التدخل -لأنه ما كان كل هذا سيتم لو أراد غير ذلك- لذلك إذا كان ذلك لا بد من التدخل، فيجب أن يكون من باب توجيه وأمر المقربين منه نحو اللعب ضمن إطار "أخلاقي" يراعي نزاهة الحياة السياسية، ويراعي مصلحة البلد والمواطن فقط، بعيداً عن أي حسابات سياسية أو حتى شخصية، وعليه أن يتدخل ضد مقربيه للقطع مع اللعب بالنار وبالتصرفات الصبيانية التي تضع مصير بلد بأكمله على المحك.
فطلب التحكيم أو التدخل الملكي خارج هذا الإطار توجه غير سليم بالمرة، حتى وإن كان الدستور يسمح بذلك، ببساطة لأنه سيرسخ لعرف وثقافة سياسية غير سليمة هي الأخرى، وهو أنه كلما وقع خلاف سياسي يتم التوجه للملك؛ لأنه إذا كان يجب أن يكون الأمر كذلك، فنعتقد أنه لا حاجة لنا بالدستور ولا بالمؤسسات من الأصل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.