تدور منذ سنين حروب بين العراق كدولة وتنظيم الدولة في العراق والشام المعروف إعلاميًّا بـ"داعش"، وتدور هذه الأيام رحى حرب ضروس بينهما على حدود الموصل.
و"داعش" هي الممثل للإرهاب في فترتنا هذه؛ إذ غدا معروفاً أنه في كل فترة تُستخدم جهة ما لتكون أيقونة الإرهاب تستغلها الدول الكبرى كحجة لممارسة ما تشاء من اعتداءات وتعديات على بلاد العالم.
والحقيقة أن الدولة العراقية لا تخوض هذه الحرب وحدها؛ فهي مدعومة بأشكال عدة من عدة وعتاد ودعم لوجستي من أطراف كثيرة كالتحالف الدولي لمحاربة داعش الذي يضم أكثر من عشرين دولة من دول العالم كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا والمغرب واستراليا وعدد من دول الخليج العربي، ويدعم الدولة في العراق كذلك إيران التي تدعم السلطة في العراق دعماً كبيراً؛ بل إنها تعتبر العراق جزءاً تابعاً للجمهورية الإيرانية منذ إسقاط الولايات المتحدة لصدام حسين عام 2003م.
من جانب آخر يحارب "داعش" في شمال سوريا تشكيلان آخران هما الجيش السوري الحر المدعوم بقوة ماديًّا وعسكريًّا من تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية.
وبعيداً عن الدخول في تفصيلات هذه الحروب وتلك التكتلات، أود هنا أن أعرض لتساؤلَيْن مثيرَيْن:
* هل حقًّا الدولة والإرهاب جهتان متقابلتان متعارضتان؟
* هل سيكون هناك منتصر بينهما؟
قبل محاولة الإجابة عن هذين التساؤلين يحسن أن أعرض لمعنى مصطلحَي "الدولة" و"الإرهاب"، وأن أعرِّج سريعاً بجولة تاريخية على ما يتعلق بهذا الموضوع.
– معنى "الدولة": على الرغم من اختلاف فقهاء القانون في تعريفهم للدولة تبعاً لاختلاف تخصصاتهم؛ إذ يراه فقهاء القانون العام من من جهة، بينما يراه فقهاء القانون الدولي من جهة أخرى، ويراه فقهاء القانون الدستوري من جهة ثالثة، على الرغم من اختلافهم هذا فإنهم -من وجهة نظري- لم يختلفوا كثيراً ولم احتلافهم عميقاً، فهم اتفقوا على محددات أساسية، واختلفوا في تفصيلاتها، وغدا اختلافهم اختلافاً في الكلمات المستخدمة أكثر من الاختلاف في المعنى.
ومن بين هذه التعريفات ارتأيت أن تعريف ديفو "Defoe" هي: "مجموعة من الأفراد مستقرة في إقليم محدد، تخضع لسلطة صاحبة السيادة، مكلفة أن تحقق صالح المجموعة، ملتزمة في ذلك مبادئ القانون".
فعناصر أية "دولة" أربعة هي: 1- شعب (أمة) "People"، 2- إقليم (وطن) "Territory"، 3- حكومة "Government"، 4- سيادة "Sovereignty".
– معنى "الإرهاب": اختلف كذلك فقهاء القانون في تحديد معنى "الإرهاب"، وسأضع هنا ثلاثة تعريفات له:
الأول: تعريف لجنة القانون الدولي في المادة (19) من المشروع المقدم من قبلها إلى الدورة الأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث عرفت الإرهاب بـأنه "كل نشاط إجرامي موجهٌ إلى دولة معينة، ويستهدف إنشاء حالة من الرعب في عقول الدولة أو أية سلطة من سلطاتها وجماعة معينة منها".
الثاني: تعريف بريان جنكيز؛ فالإرهاب هو "عمل أو مجموعة من الأفعال المعينة التي تهدف الى تحقيق هدف معين".
الثالث: تعريف الدكتور شفيق المصري للإرهاب بأنه "استخدام غير شرعي للقوة أو العنف، أو التهديد باستخدامها بقصد تحقيق أهداف سياسية".
ومن وجهة نظري أن مصطلح "الإرهاب" ما زال يحتاج إلى كثير نظر؛ فتعريفات "الإرهاب" في عمومها يكتنفها الكثير من القصور؛ فتعريف لجنة القانون الدولي مثلاً يشوبه تحديد معنى "النشاط الإجرامي"، ووفق أية رؤية أو غاية يتم تحديده على أنه إجرامي؟
وتعريف جنكيز عام جدًّا لدرجة أنه يمكن أن يضم معنى الإرهاب -بحسبه- كلُّ عمل لتحقيق هدف بصرف النظر عن كونه شرًّا أو خيراً.
وتعريف المصري يوجِد خلطاً بين مفهومَي "الإرهاب" و"الجريمة السياسية".
عموماً مصطلح "الإرهاب" ما زال يحتاج إلى دراسات قانونية أكثر عمقاً وشمولية، خصوصًا إذا طرحناه من خلال منظورات عدة سياسية واجتماعية وتاريخية؛ فما زال مصطلح "الإرهاب" في حاجة إلى تحرير مضمونه واستبعاد محترزاته.
– يرجع استخدام مصطلح إرهاب "Terrorism" كمصطلح في الثقافة الغربية إلى نوع الحكم الذي لجأت إليه الثورة الفرنسية خلال عامي 1793-1794 ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين لمناهضة للثورة، وكانت نتيجة إرهاب هذه المرحلة التي عرفت باسم "Reign of Terror" اعتقال ما يزيد على300 ألف مشتبه به، وإعدام 17 ألف فرنسي، إضافة إلى موت الآلاف في السجون بدون محاكمات.
هذا عن المصطلح، أما من حيث الممارسة فإن "الإرهاب" كممارسة -في سياق الثقافة الغربية- أقدم من هذا التاريخ بكثير؛ إذ ورد في كتب المؤرخ الإغريقي زينوفون (349-430 ق. م.) عن المؤثرات النفسية للحرب والإرهاب على الشعوب.
– تأصيل مصطلح "الإرهاب" إسلاميًّا سنتطرق له من اتجاهين:
* القرآن الكريم: وردت مشتقات كلمة "رهب" في القرآن الكريم في ثمانية مواطن، ودارت كلها على معنى "الخوف والفزع"؛ غير أنني أود التوقف سريعًا أمام الآية الأبرز في هذا السياق، وهي الآية 60 في سورة الأنفال لأنها الآية الوحيدة التي ورد فيه اشتقاق "رهب" في سياق الحديث عن العدو؛ يقول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" حيث الإرهاب هنا معنى إيجابي وليس معنى سلبيًّا، وأريد منه إرهاب الآخرين حتى يهابوا مجرد التفكير في الاعتداء على "دار الإسلام".
وفي هذه الآية نجد حديثاً عن "الإرهاب الإيجابي" في ظل سياقات من "الإرهاب السلبي" وفق الرؤية الغربية للإرهاب.
* الفقه الإسلامي: أقرب توجيه فقهي لمصطلح "الإرهاب" وفق الرؤية الغربية هو جريمتا البغي والحرابة، وهما جريمتان رتب الله تعالى عليهما عقوبات مغلظة شديدة؛ فالقتال للبغي: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ"، والقتل والصلب وتقطيع الأطراف للحرابة: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
نعود للإجابة على التساؤلين:
* هل حقًّا الدولة والإرهاب جهتان متقابلتان متعارضتان؟
في رأيي الإرهاب والدولة ليسا طرفين متقابلين، بل هما في الغالب طرف واحد وإن بدا الأمر غير ذلك، ونظرة تاريخية لتولُّد الإرهابيين من أي اتجاه كانوا تؤكد هذا.
إن الإرهاب في الأصل صنيعة الدول والحكومات، تسعى من ورائه لتحقيق مآرب عدة، أبرزها تثبيت دعائم الحكم، والقضاء على الخصوم، والسماح باستخدام وسائل القمع المتاحة كلها دون التقيد بدساتير أو قوانين، وكل ذلك بحجة محاربة الإرهاب وتحت مظلته.
وعند الدول الكبرى يتجاوز الأمر كل ذلك ليشمل حق التدخل في بلاد الآخرين، واستباحة أراضيها ومقدَّراتها؛ بل وما تحت أراضيها من موارد.
أما الإرهابيون هؤلاء فمنهم من بقي تحت عباءة الدولة تحركه كيف تشاء، ومنهم من غدا عصيًّا على من أوجده؛ فخرج منها وعليها، واتسع الخرق على راقع الحكومة فلم تعد قادرة على السيطرة عليهم؛ لتبدأ في محاربتهم، وهكذا تستمر هذه الدائرة المغلقة.
العلاقة التوافقية بين الدولة والإرهاب هي الأساس على الأقل في دولنا العربية، وإن كنت شخصيًّا أرى أنها قضية عالمية تشمل الجميع وفي أي مكان، ونظرة سريعة على "فرق الموت Death Squads" السلفادورية و"غابات الشمال North Woods" الكوبية و"القاعدة" في العالم الإسلامي وغيرها وغيرها يوضح ذلك، ولا يسمح المجال هنا للإسهاب في هذا، لكن حسبي من الاستشهاد الإثبات.
"الدولة" هي صانع "الإرهاب" الأول، وتبقى مسألة التحكم فيه، والتي غالباً ما يفلت منها زمام السيطرة عليه؛ فيضيع المِقْوَد، وتبدأ بينهما مرحلة الكرِّ والفرِّ ولعبة القط والفأر، وفي العادة تبدأ العلاقة بينهما بفعل من الدولة ورد فعل من الإرهاب ليصل إلى فعل من الإرهاب ولهاث الدولة وراءه كرد فعل، و"داعش" اليوم خير مثال على ذلك؛ حيث تتمدد وتنتشر وتُحرك أذرعتها في كل مكان أكبر برهان؛ تحارَب هنا فتظهر هناك، تطرَد من مكان فتتواجد في أماكن.
ما سبق لا يعني بالطبع أن كل إرهاب هو من صنع الدولة؛ لكنه الأعم الأغلب من وجهة نظري.
* هل سيكون هناك منتصر بينهما؟
بناء على الإجابة على التساؤل الأول أرى ألاَّ منتصر بين "الدولة" و"الإرهاب"؛ لأن هذه هي قواعد اللعبة، أن يتواجد الطرفان، وإذا غاب إرهاب ما، وجب على الدولة صناعة إرهاب آخر لتستمر اللعبة، وكالعادة الخاسر الوحيد هو الشعب الواقع بين رحى مطرقة الإرهاب وسندان الدولة.
إذا كان الحال هكذا فكيف سينتهي هذا الكابوس؟
كثيرون تحدثوا عن "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات"؛ لكنهم اكتفوا بالتنظير لذلك، ولم يحاولوا ربطوا هذا بأرض الواقع، وسأحاول أن أقوم بهذا الربط منطلقاً من فكرة "الاضمحلال" التي أوضحها فريدريخ إنغلز وتبعه فيها فلاديمير لينين؛ فأقول أن الشعب سيكون صاحب الضحكة الأخيرة عبر هذه الفكرة.
وإذا كان إنغلز قد عنى بالاضمحلال واضمحلالاً واحداً هو "اضمحلال الدولة"؛ فإنني أعني به اضمحلالين "اضمحلال الدولة" و"اضمحلال الإرهاب".
الشعب هو من سيضحك أخيراً مهما طال الزمن وعظمت التضحيات، "وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.