على الرغم من سقوط جدار برلين في نهاية الثمانينات من القرن الذي ولّى، وحلِّ اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991، وما عناه كل ذلك، من تراجع للمد الأيديولوجي، الذي انتعش خلال الحرب الباردة بين المعسكرين، وتواري الاشتراكية التي اندثرت في موطنها الأصلي بعقر دارها، يستمر كثير من المحسوبين على الطبقة المثقفة، أو المتنورة، كما يحلو لبعضهم أن يسمي نفسه، من السياسيين والمفكرين ببلادنا العربية، في الدفاع عن العقيدة الأيديولوجية، ويتعصبون لبياناتها الحمراء، ويعتبرون التحالف السياسي مع المخالفين لهذا المذهب بمثابة خط أحمر، وميوعة في الحقل السياسي، والنسق الحزبي، غير أن ما يتخبط فيه عالمنا العربي، من مشكلات اقتصادية واجتماعية، والتردي في سلالم التنمية بمختلف أنواعها ومؤشراتها العالمية، كل ذلك يدفع المراقبين، والملاحظين، والباحثين، على حد سواء، للتساؤل الجدي والعميق، حول فوائد الاصطفاف المبني على المرجعية الأيديولوجية بالنسبة للبلاد والعباد؟
لماذا تقدم الغرب على الرغم من تخلصه من أثقال المذهبية السياسية المنغلقة وأوزارها؟
أليس الوطن وخدمة المواطنين أكبر أيديولوجية وأعلاها؟
لماذا لا يتوحد الساسة في بلادنا تحت لواء المواطنة الصادقة التي تنتفي عبرها التصورات الذاتية والنزوعات الشخصية؟
مناسبة هذا الخطاب ودواعي سياقه، مستجدات الساحة السياسية المغربية، بعد إعلان نتائج انتخابات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016، التي بوأت حزب العدالة والتنمية صدارة المشهد الحزبي، وما أثير من ضجيج ونقاش، بشأن التحالفات المستقبلية الممكنة بين الأحزاب السياسية، على اختلاف اتجاهاتها وألوانها ومشاربها، سواء التي كانت في الأغلبية الحكومية، أو بينها وبين بعض أحزاب المعارضة.
لقد تعددت الأسئلة بشأن جدوى المشاركة السياسية، والتحالف الحكومي، في ظل تباين المرجعيات، والمذهبية والأيديولوجية، وهذه الأسئلة الحارقة جرى تداولها العام والخاص وعلى نطاق واسع، حين تحالف حزب التقدم والاشتراكية، ذو المرجعية اليسارية -أول حزب شيوعي، تأسس في المغرب- مع حزب العدالة والتنمية، الذي يصرح في أدبياته بأنه حزب ذو مرجعية إسلامية، تحالفا خلال الولاية الحكومية السابقة (2012 – 2016).
لقد عِيب على حزب والتقدم والاشتراكية تخليه عن خطِّه الأيديولوجي، وتصوراته للمشروع المجتمعي، الذي يقول إنه تقدمي وحداثي، ووضع يده في يد بنكيران، زعيم العدالة والتنمية، الذي يعتبر محافظاً، بل ويتهمه خصومه بالرجعية ومعاداة الحداثة، وللأمانة، فقد اعتبر حزب التقدم والاشتراكية قراره نابعاً من اقتناعه بضرورة إيثار المصلحة العامة للوطن والمواطنين على الاقتناعات السياسية والمذهبية.. ومع ذلك قيل بأن هذا التعليل مجرد ذريعة للتستر على سعي الحزب نحو الحقائب الوزارية.
وقد أوَّل بعض المتابعين للشأن الحزبي والسياسي المغربي تحالف العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية بالنزوع نحو البراغماتية السياسية، التي تدفع أصحابها لتقديم شروط اللحظة وتحدياتها ومقتضياتها على المبادئ السياسية والإملاءات المذهبية.
يتزايد اليوم بكثرة الحديث عن استدعاء الكتلة الديمقراطية، التي تضم مكونات الكتلة التاريخية إضافة لحزب العدالة والتنمية.
ومن دلالات هذا الاستدعاء، استبعاد التحالفات التقليدية على أساس الاتجاهات السياسية والمرجعيات الأيديولوجية، والانتقال نحو التحالفات الوطنية البراغماتية، التي تراعي المصالح العليا للبلاد، عوض الخوض في التناقضات الفكرية والسياسية العقيمة التي لا طائل من ورائها.
لكن السؤال / الأسئلة الجوهرية، التي يجب طرحها بشأن إمكانية قيام نظير هذه التحالفات:
هل يمكن التوافق حول تصور عام للمشروع المجتمعي المغربي الذي نريده / ينتظره المغاربة جميعاً؟
إذا كان هناك ما يجمع بين حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية، من حيث المرجعية الدينية، وتقارب التصور بشأن كيفية الخروج من مآزق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهل يمكنهما التعايش والائتلاف مع الحزبين اليساريين الآخرين، التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي؟
لكن.. ألم يجرب حزب العدالة والتنمية التوافق مع حزب التقدم والاشتراكية؟
ألم يسبق لحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي أن عملا معاً في حكومات سابقة، سواء برئاسة عباس الفاسي، أو إدريس جطو، أو عبد الرحمن اليوسفي؟
لقد تعلل حزب الاتحاد الاشتراكي في السابق، حين دعاه عبد الإله بنكيران لدخول الحكومة الأولى ما بعد انتخابات 2011، بأن الشعب جعل الاتحاد الاشتراكي في المرتبة الخامسة، في الوقت الذي منح العدالة والتنمية المرتبة الأولى بـ107 مقاعد، وأن الحزب قد فهم الرسالة، واختار المعارضة، ترددت ساعتها أخبار عن رفض هياكل الحزب التحالف مع الإسلاميين -أو ما يطلق عليه بعضهم لخوانجية- الذين تحملهم جهات في الاتحاد الاشتراكي تهمة التواطؤ مع المتورطين في اغتيال عمر بن جلون القيادي الاتحادي، لكن هل التباينات الأيديولوجية تمثل حائلاً بين الأحزاب السياسية، عند نسج التحالفات فيما بينها لدخول الحكومات؟
هل الاختلاف المذهبي والفكري يشكل عائقاً أمام الأحزاب للتوافق على العمل في إطار تحالف حكومي؟
ألا تتخذ الأحزاب السياسية التباين الأيديولوجي شماعة للتهرب من التحالفات التي تتوجس من تبعاتها، أو التي لا تقتنع بها؟
هل تفقد التحالفات الهجينة الأحزاب التاريخية أرصدتها الشعبية لدى الجماهير والكتل الناخبة؟
هل تمنع التنابزات السياسية والتهجمات الشخصية، ما بين الأحزاب السياسية المعارضة، وتلك الموالية للحكومة، من الدخول في تحالفات قد تنسف مصداقية الزعامات الحزبية التي تحرجها خطاباتها المتلونة بحسب الفصول السياسية والتقلبات في المواقع؟
في تقديري الشخصي، وبحكم الوعي بملامح وقسمات السلوك الحزبي، وأفعال الكيانات الحزبية، وردود فعل زعاماتها، فإنني أعتبر مشاهد الصراع السياسي والتنابز الكلامي والخطابي في المناسبات الانتخابية، وخلال جلسات البرلمان، وأثناء المساءلة الشهرية، كل ذلك، لا يعدو كونه تكتيكاً مرحلياً وظرفياً، يمكن أن يتغير بسرعة فائقة، بالنظر إلى تدخل بعض المتغيرات القوية التي بمقدورها إعادة رسم خريطة التوازنات السياسية بين الأحزاب.
إن الأحزاب السياسية في نظري تستحضر اليوم وبقوة، بعدما أزفت ساعة الاستوزار، من أجل دخول الحكومة رقم 31 في تاريخ المغرب، ربحها وخساراتها، من كل عملية أو خطوة يمكن أن تقدم عليها.
بعض الأحزاب السياسية التي جربت كراسي الوزارات والحكومة، وتراجعت حصيلتها الانتخابية، مثل حزب التقدم والاشتراكية، لا يمكنها الحسم في كون المشاركة السياسية في التدبير الحكومي، من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الحزب، ما دام الحزب الأغلبي السابق والحاضر لم تضعفه المشاركة بل زادت مقاعده، كما أن الأحزاب السياسية التي لم تشارك في الحكومة المنتهية ولايتها، واختارت المعارضة، مثل الاتحاد الاشتراكي، لا شك أنها قد استخلصت أن الناخبين على العكس تماماً، قد عاقبوا المعارضة عوض الحزب الذي كان يقود الحكومة، باستثناء حزب واحد، أي حزب الجرار، الذي ضاعف مقاعده وهو في المعارضة.
لقد أثر المشهد السياسي الذي نجم عن انتخابات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016، والذي كشف عن وجود ثنائية قطبية بين حزبين كبيرين: العدالة والتنمية، وحزب الأصالة والمعاصرة، اللذين حصدا أكبر عدد من الأصوات، قيل إنهما اقتطعاها من الأحزاب التاريخية.
من هنا فالأحزاب السياسية التي تقهقرت في ترتيب المقاعد النيابية تبدو في هذه اللحظات الحرجة متوجسة جداً من تبعات الثنائية القطبية، التي أصبحت واقعاً حقيقياً، وليس مجرد توقعات وارتسامات، ولا يخفى مرافعتها بشراسة خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، من أجل محو فكرة الثنائية من أذهان الأنصار والرأي العام.
إن الأحزاب التي مُنيت بالتراجع في مجموع ما حصلته من مقاعد مقارنة مع عددها في انتخابات 2011، ستتفاوض اليوم مع عبد الإله بنكيران، الذي كلفه الملك بتشكيل الحكومة الجديدة، وهي تترقب مستقبلها الغامض، وما ستأتي به انتخابات 2021، في حال نجاح الثنائية القطبية، ولذا، فهي الآن تتأهب للقاء بنكيران، وكلها استعداد لتأثيث المشهد الحكومي المقبل بعد الظفر بحقائب وازنة ومغرية.
إن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي من أكبر المتحمسين اليوم دون شك، للدخول للحكومة، فضلاً عن حزب التقدم والاشتراكية، الذي أعلن تحالفه الاستراتيجي مع العدالة والتنمية قبل انطلاق الانتخابات.
لا شك أن هذه الأحزاب ستسعى لتحسين صورتها لدى الناخبين في المستقبل من أجل الرفع من حصتها من المقاعد داخل البرلمان بغرفتَيه.
لقد تضرر حزب الاستقلال كثيراً بعد خروجه المبكر من حكومة بنكيران، وفقد زعيمه منصب عمدة فاس، معقله الرئيسي، كما تضاءلت مقاعده بشكل مفاجئ، وأصبح اليوم أكثر اقتناعاً بالدخول للحكومة، للمساهمة عبر قنواتها في تحسين صورته لدى الرأي العام، لا سيما بعد خرجات أمينه العام ضد بنكيران وحكومته.
أما حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي عانى الانشقاقات والصراعات الداخلية، فلا يبدو متحمساً للعودة من جديد لممارسة أدوار المعارضة ضد حكومة بنكيران، مع حليفه الجديد حزب الأصالة والمعاصرة، التي ضاعف مقاعده في الانتخابات التشريعية.
بناء على ما سبق، نستخلص أن الحاجة أصبحت اليوم ماسة لإحياء الكتلة الوطنية، إضافة لحزب العدالة والتنمية المتصدر للانتخابات التشريعية، من أجل بناء تحالف متجانس ومنسجم، من حيث الأهداف والغايات والاستراتيجيات.
إن مشكلات المغرب والمطالب المُلحة للمواطنين والمواطنات اليوم تقتضي من كل سياسي وطني غيور على البلاد والعباد، وعلى المصالح العليا والمستقبلية للوطن، أن يترك الخلافات والاختلافات السياسية والأيديولوجية جانباً، وأن يكون الارتقاء بنسب نمو الاقتصاد المغربي، وتخفيض العجز، وتقليص التضخم أولوية الأولويات، وإذا كان حزب العدالة والتنمية مطالباً اليوم من لدن خصومه ومناوئيه، بإبعاد ما هو ديني عن ممارساته السياسية، وسلوكياته التدبيرية، والفصل المنهجي بين الديني والدعوي، فإن على الأحزاب الأخرى التي تعتنق بعض الأيديولوجيات الوافدة، ألا تخلط بين الأيديولوجي والسياسي، وأن تنتبه، وتعي احتياجات السياق والظرفية التي تمر بها بلادنا واقتصادها.
إنني متيقن بإمكان حصول تحالف قوي بين الفرقاء السياسيين، محوره وشعاره المغرب فقط، حيث لا شيء يستحق أن نؤجل تفاهمنا وتوافقنا لأجله، وأن نعمق خلافاتنا البينية.
مصاعب المغاربة اليوم تتشخص في التعليم الفاشل، والصحة العليلة، والعدل البطيء وغير المنصف، والعالم القروي البئيس والمتخلف جداً، والسكن المفتقر لشروط الكرامة وعزة النفس، والعالم القروي البئيس والمتردي، وفي الأمية المتفشية، وفي الجريمة المستفحلة، والبطالة المتنامية معدلاتها، معضلاتنا ليست في الدين أو في التدين أو في الاشتراكية أو الرأسمالية.
رجاء إذا كانت أفكارنا وأيديولوجياتنا تباعد بيننا، فلنجعل الوطن فكرتنا الأولى والأخيرة، فإن الهوة ستتقلص حتماً.
لو حصل هذا التحالف المنشود سيندد به في البدء بعض الناس، وستشجبه بعض الأصوات في العالم الافتراضي وفي شبكات التواصل الاجتماعي، والتي ما زالت تخيم عليها أجواء الحملة الانتخابية، وما قيل فيها من خطابات تنافسية، وعنف لفظي، ومن صراعات ثنائية وبينية، لكن المواطنين والمواطنات، حين ستستجيب الحكومة الجديدة لمطالبهم، وتنصفهم، وتظهر في المائة يوم الأولى ما يبعث على الاطمئنان، واسترداد الثقة، سينسون بسرعة تعدد روافد مكونات الحكومة، وائتلاف اليساريين مع الإسلاميين، واليمينيين.
إذا أخذنا دول الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، فقد استطاعت عبر تجاوزها للخلافات الأيديولوجية، والانقسامات المذهبية والسياسية، والانكباب على الاقتصاد والتنمية، بلوغ شأو عظيم، لقد حددوا أهدافاً استراتيجية واضحة، متوافقاً عليها، ووفروا الوسائل والإجراءات والإمكانات من أجل تحقيقها، فأصبحوا قوة اقتصادية عالمية، فلماذا لا نستفيد من النماذج الناجحة في جوارنا؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.