هاجس الطرد مجدداً

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/16 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/06 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش

كنت أدرّس بعض الوثائق الخاصة بالموريسكيين الأندلسيين وقصة طردهم من إسبانيا واستعباد أطفالهم، وكيف أقر القساوسة الكاثوليك في وثيقة (يوليو/تموز 1610) بأن "الرق لم يبرر أخلاقياً فحسب، بل هو مُجدٍ من الناحية الروحية، فبفصل الأطفال المسلمين عن آبائهم وتنصيرهم يصبح من غير المحتمل أن يرتدوا عن المسيحية، كما أن العبيد نادراً ما يتزوجون، فيصبح هذا منهاجاً آخر للتخلص من العرق المسلم الشرير".

كان الجميع هادئاً، ونحن نراجع نصوص الوثائق التي دبجها كتبة محترفون ولا شك، وعندما وصلنا إلى نص "وثيقة الطرد النهائي" (سبتمبر/أيلول 1609)، خاصة الفقرة التي تقول: "يُحكم بالموت على أي موريسكي أخفى شيئاً من أمواله أو ممتلكاته مما يعجز عن حمله، أو أحرق أو أتلف بيتاً أو مزرعة أو حاكورة أو شجرة أو أي ممتلكات، وتُنزل العقوبة ذاتها بأي جار تكتّم على مثل هذه الأعمال؛ لأن المرسوم يوجب على الموريسكيين إبقاء الممتلكات التي يعجزون عن حملها فتؤول إلى صاحب الإقطاعية".

هنا وقف أحد طلبتي المغاربة من أصول موريسكية وسألني إن كنت أرى أن هذا قد يحدث لنا مجدداً؟ ثم سكت وسكت بقية الطلاب انتظاراً، فقلت إنني عندما وجدت أن خمسة من طلابي من أصول موريسكية فكرت بداية ألا أُدرس نصوص هذه الوثائق، ثم تذكرت قول المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي: أنه من الواجب علينا أن نبيّن للعالم العربي الإسلامي كل ما حدث للموريسكيين؛ لنقول لهم: "انتبهوا لأنه ينتظركم "أندلسيات" جديدة إذا لم تدركوا ما حصل للموريسكيين الأندلسيين".

وبالفعل إن لم نفهم ما حدث للموريسكيين بدقة فقد يتكرر الأمر مراراً، بل إنه يتكرر بالفعل الآن في فلسطين، خصوصاً مع الفلسطينيين المقدسيين، الفرق الوحيد أن ما أنجزه الإسبان في خمسمائة عام أنجزه الإسرائيليون في خمسين سنة فقط، ففكرة الطرد، أو ما يسمى الآن بالترانسفير، واحدة، ولكن الكفاءة في تطبيقها أصبحت أسرع وأنجع.

وبالطبع قد يحدث هذا لكم مجدداً إذا وصلت الأحزاب اليمينية المتطرفة للحكم، ثم عملت معاً على مستوى أوروبي قومي، وتوجد بالفعل منظمات يمينية جديدة تدفع في هذا الاتجاه. انظر مثلا لحركة "جيل الهوية" Génération Identitaire الفرنسية المتطرفة التي تهدف في النهاية لفكرة الطرد النهائي للمسلمين من أوروبا، طرداً على نمط القرون الوسطى، وهي تتظاهر بالفعل تحت شعارات من قبيل "المسلمون إلى خارج أوروبا".

هذه في رأيي هي أخطر حركات اليمين المتطرف في أوروبا وأعمقها عداء للمسلمين، وقد نشأت في فرنسا وأصبحت الآن أكثر قوة وتنظيماً وانتشاراً في أوروبا كلها، ومن هنا تحديداً يأتي خطرها، فبسبب هذه الحركة الفرنسية لم تعد جماعات اليمين المتطرف تتحدث عن قومية تقليدية كالنازية مثلاً، ولكن عن قومية أوروبية عامة عدوها الرئيسي هو ما تسميه بـ"أسلمة أوروبا"، فهي تدعو لبناء هوية أوروبية موحدة ضد هجرة المسلمين، وترى أن الحل الوحيد لحماية أوروبا من الأسلمة هو "طرد المسلمين" منها، كما فعل شارل مارتل قديماً مع جيوش المسلمين في معركة "تور وبواتييه" بلاط الشهداء، سنة 732م، وهذا الرقم هو أحد الشعارات المهمة الموجودة على أعلام هذه الحركة.

وكان أول حدث كبير لهذه الحركة ضد المسلمين في سنة 2012 عندما وقفوا ضد بناء أول مسجد في مدينة بواتييه التاريخية التي جرت المعركة "بلاط الشهداء" بقربها، وقد قاموا باحتلال موقع البناء لمنع إكمال المسجد، وأعلنوا أن إكماله يعد هزيمة للهوية الأوروبية التي ينبغي أن تكون -في تصورهم- ضد كل ما هو إسلامي، فتطرفها كما ترى قومي – ديني، ويمكن أن نلحقها بالجماعات المسيحية المتطرفة.

وقد أصبحت هذه الحركة أكثر قوة وتنظيماً وانتشاراً بعد الأحداث الإرهابية في باريس وبروكسل، وفي هذا العام وصلت فعاليات هذه الحركة المتطرفة حتى برلين؛ حيث قامت في صباح يوم 27 أغسطس/آب الماضي بتسلق بوابة براندنبورغ الشهيرة بوسط برلين، واحتلوها لبعض الوقت، ورفعوا عليها أعلامهم، ورغم وصول البوليس الألماني سريعاً، وهتافات بعض المشاة "النازيون برَّة"، فإن لهذا الحدث أهميته الرمزية ودلالته على قوة الحركة وتحديها، وظني أن صورتهم على بوابة براندنبورغ بوسط برلين تمثل بداية لمرحلة جديدة من التطرف الديني القومي ضد الأجانب، ولا سيما العرب والمسلمين وذوي البشرة السمراء.

والآن إذا نظرنا إلى تركيبة اليمين المتطرف على المستوى الأوروبي وجدنا أنه يتكاثر وينتشر ويتعمق ويقوى سياسياً. وكل هذا بالطبع كان قبل ظهور دونالد ترامب وفوزه بالانتخابات الأميركية، فما بالك بما سيحدث الآن!

بالتأكيد فإن جرأة ترامب في إعلان العداء للمهاجرين عامة وللمسلمين منهم خاصة، سيكون لها تأثيرات ضخمة على الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، وسيؤدي هذا -ولا ريب- لنتائج وخيمة على أوضاع المسلمين الأوروبيين، وعندها يصبح الحديث عن الطرد مجدداً أو عن "الموريسكيين الجدد" أمراً جدياً، وقد يتكرر مرة أخرى ما جاء في الأثر عن استئصال العرب في أرض العجم، وفي كل الأحوال لا غالب إلا الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد