صوت الزغاريد الحادة المنبعث من اهتزاز اللسان وأوتار الصوت في تباعد وتصادم، بقوتها تبلغ نشوة الفرح وقمته في تلك اللحظة والمناسبة، غير أن زغاريد الحزن تكوي القلوب وتخترق الأضلع وتكسر قوام الرجال المفتول، هي زغرودة الفراق وإرغام الذات على فراق غالٍ وفرح مصطنع لا تَجبر خاطرها إلا كلمة شهيد، هذه الكلمة التي سمعنا كثيراً في الحروب لنتساءل اليوم: ما حربنا اليوم كمغاربة ومع من؟ حتى يُختم على لائحة أعمالنا شهداء، شهداء ماذا؟.. شهداء الوطن!
تختلط أحاسيس المرارة، وتشعر بهذيان أقرب منه إلى الغثيان المختلِط بمرارة الحلق بعد القيء، عندما تقع عيناك على شريط طحن محسن بائع السمك، الذي أنهته كبسة زر، أنهت مشكلة بائع عالة على الوطن! فبكبسة زر طويت ملفات، وبكبسة زر اختفت معالمُ أناس جاءوا لهذا العالم ليعيشوا بأدنى الحقوق واختاروا أن يجنوا من عرقهم في بلد استُسهل فيه الجني بعرق الآخر! "محسنون" هم كثرٌ زُهقت أرواحهم على عتبة هذا الوطن في أكبر جوانبه المظلمة، حيث يرتقي موظفون أدنى من عاديين في مراتبهم المخزنية ويصعدون في سلم المناصب الرمزية ويمارسون الشَّطَط بلا محاسب ولا رقيب.
فكثيرون نحن من نحب السمك بأنواعه، وقليلون من يجدون إتقانه كريات السمك المطحون في لذته الخاصة المتبّلة بعناية، غير أن الطحنة العالمية التي لم تكتف بالسمك وأضافت على القوام صاحب السمك أفرزت عصارة التجرّد من الإنسانية ولبست جلباب الطاغية الجلاد، ورائحة عصارة شاحنة النفايات التي تزكم الأنوف بما تحمل من بقايا أشياء لم تعد صالحة للاستعمال؛ بقايا هي وأوساخ ونفايات و…، غير أن عصارة وقت مغرب يوم الجمعة الماضي بالحسيمة لن تزكم الأنوف للحظة؛ بل لسنوات وستظل شاهداً على نتانة أشخاص لن تُغسل حتى "بالماء القاطع".
مؤسفٌ أن نصرخ حتى تبح أصواتنا من دون أن يُسمع صدى الصراخ، ومؤسفٌ أكثر أن نرتمي بأحضان مَن هدد أمننا، وأن نعلم حقنا ونُجبر على أن نقول إنه ليس لنا… مشاهد حجز بضائع الباعة المتجولين كثيرة، تمر وتعبر مخلّفة وراءها بكاء رجال قهرهم الزمنُ وكان أرحم عليهم من قهر بني البشر، مخلّفة استعطافاً وترَجّياً وتقبيلاً للأرجل والأيادي لأناس ماتت فيهم الإنسانية، وترفعوا عن مقامهم واستفردوا بسلطة حقيقية منحها لهم العرف فطغوا…حجز يحمل معه انكسار رجال وقمة الاستسلام لقدر وضْعي جعل الباعة في الضفة الأخرى من الكفة الطائشة رغم ثقل وزنها؛ لأنها الأغلبية.
لم تندمل جراح مجتمع من مُصاب أم فتيحة القنطيرة التي اكتوت بلهيب نار الحكرة، ليحرق تلميذاً صاح بعد ندم سنة من الانقطاع عن الدراسة، وقال: "بغيت نقرا ونهز والدي"، فجاءه الرد السريع كما جاءت عبارة "طحن مو" وسمع عبارة "نتا غي ذبانة"، كلمات ليست بالكمية الكافية لكنها بالكيفية والدلالة ما يحمل الإنسان على الانفجار في وجه الكل والصراخ بأعلى صوت، والذهاب لما وراء الإحساس حتى نسيان وقع الكلمة المزلزلة.
لعل ما يلملم قليلاً من الجراح اليوم هو فوهة الأمل في نهاية الألم، أمل ذاك الذي صرخ، الأحد، بالمسيرات التي خرجت منددة تعكس في جانب آخر أن المغرب لا يضم فقط من خرج في مسيرة الدار البيضاء ولا فقط من صوّتوا للعدالة، ولا فقط من جاءوا في مسيرة السبت ضد بان كي مون، ولا فقط من يعترضون السبيل ويشرملون ويتاجرون ويغتصبون، أبانت عن وجود آدميين مغاربة خرجوا فرادى بعدما طالهم الظلم والجور و"الحكرة"، فبعدما خرجوا قبل في مسيرات الكرامة خرجوا اليوم ليقولوا: لا للحكرة.
كم نحتاج من ميتة وبأي صيغة حتى تحلوا ببيوتنا وتكتشفوا أن وسط هذا المغرب الذي لا تعرفونه توجد كائنات حية "بغات تعيش بلحلال" وهدفها لا يتجاوز عتبة طرف الخبز! كثيرون هم الذين انتحروا وكثيرون هم من ينتظرون الطابور خلف المباني الشاهقة ليحظوا بلحظة استسلام تعبر بهم إلى عالم مجهول بكل ما يحمل حتى بمساوئه وسيكون أخف من عالم منافق يعطيهم بأخمس أصبع القدم ليأخذ منهم بمكيال "رحبة الزرع".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.