يبدو أن كل دولة من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مستميتة في أن يكون لها "بوعزيزي" خاص بها حتى تستوعب أن التاريخ بدأ يتغير من حولها. هذا ما يبدو على الأقل، من خلال تتبع الأوضاع خلال السنوات الخمس الأخيرة منذ أن وُلد "بوعزيزي" تونس.
ولن نكون مجحفين إن قلنا إن بلدي المغرب، مثلاً -الذي يعتبر لحد الآن من أكثر الدول حكمةً في تعامله مع هذا التحول التاريخي الكبير- يبدو أحياناً كأنه يريد أن يتخلى عن الإصلاح المؤسساتي والعودة تدريجياً إلى السلطوية المطلقة.
لكنّ هذه العودة إلى الوراء تصطدم في كل مرة بحادثٍ عارض، يُرجع الزخم للشارع ويفجّر الطاقات الغاضبة ويجعل السلطة في مأزق حقيقي. وتكرّر ذلك مراتٍ عدة بعد 2011.
ويشكّل حدث مقتل "بائع السمك" في مدينة الحسيمة يوم الجمعة 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016، ولادة "بوعزيزي" جديد شبيه تماماً ببوعزيزي تونس في المغرب، سواء فيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي البسيط الذي يمارسه، أو من حيث اصطدامه بالسلطة التي صادرت بضاعته وأتلفتها، أو من حيث الطريقة البشعة التي أدت إلى وفاته.
ولحدود الآن، فقد أدى هذا الحادث إلى سلسلة من المسيرات الشعبية، التي حظيت بإجماع من طرف الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى وبين المثقفين والإعلاميين والنشطاء الشباب ومن كل حساسيات المجتمع المغربي، وهو إجماع لا يقع إلا في اللحظات الحرجة في تاريخ المجتمع المغربي.
إنه من المهم أن يُقرأ هذا الحادث في سياقه المغربي، الذي عاش هذا الشهر حادث انتخابِ ثاني برلمان بعد "دستور الربيع العربي"، وتعيين زعيم الحزب الفائز رئيساً للوزراء بعد انتخابات شرسة.
لكن هذه العملية برمتها لم تكن كافية لتمتص صدمة موت "بائع السمك"، وفي الآن ذاته تبين محدودية مصداقية المؤسسات المنتخبة في المغرب. وهذا يدفعنا كي نطرح السؤال حول مصداقية العملية الديمقراطية ككل؟ هل بإمكان المغرب أن يتجنب الأزمات السياسية عن طريق اعتماد الآلية الديمقراطية من أجل السلم الاجتماعي، أم أن هناك خللاً ما يمنع ذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن ننظر إلى الجو الذي مرت فيه الانتخابات؛ حيث أجمع أغلب الفاعلين على أن التنافس الانتخابي لم يكن شفافاً بين الأحزاب السياسية المترشحة؛ إذ وقفت الإدارة وراء حزب معين داعمة ومساندة له. ولم تتوقف الشكوى وتسجيل الخروقات حتى من حزب العدالة والتنمية الذي حسم الاقتراع لصالحه، سواء قبل العملية الانتخابية أو حتى بعدها. وبعد نتائج الاقتراع، شكك عدد من الأحزاب في مصداقية العملية الانتخابية، وهو ما أسهم في انخفاض مستوى ثقة المواطن بالمؤسسات التي تم انتخابها.
وبعد الانتخابات وإعادة تعيين رئيس الوزراء، تدخلت أطراف في السلطة للي أذرع رئيس الوزراء المعيّن وعرقلة عمله، سواء عن طريق الضغط على بعض الأحزاب كي تمتنع عن تكوين تحالف سياسي معه، أو عن طريق تأخير تكوين الحكومة بافتعال أحداث وسط أحزاب أخرى. وأسهم هذا التردد في إحساس المواطن بعدم جدوى العملية ككل، وارتمائه بسرعة كبيرة بعد مقتل "بائع السمك" في رهان الشارع بشكل سريع.
وفي الشارع، كان المشهد متطابقاً مع مشاهد مرت أمام أعيننا خلال السنوات الخمس الماضية، ويؤكد هذا التطابق مسألة أساسية؛ أن تلك المشاهد لم تكن محض صُدف عابرة؛ بل كانت تعبيراً عن تغيير عميق حدث ويحدث في المجتمع المغربي.
أن تلاحم الطبقات الفقيرة مع الطبقات الوسطى ونشطاء الإعلام الجديد وبعض المثقفين والإعلاميين من مختلف الحساسيات الفكرية، يؤكد أن "كتلة حرجة" تكونت وهي مستعدة لأن تقول كلمتها في اللحظات المصيرية. قد يخبو صوت هذه "الكتلة" أحياناً، لكنه سرعان ما سيرتفع حينما يبلغ الضغط مستويات معينة.
يبدو أن "فردنة" المجتمع المغربي التي تتسع يوماً بعد يوم، وخروج طبقات منه نسبياً من ثقل الثقافة التقليدية بفعل عملية التحديث المستمر منذ فجر القرن الماضي، وتحرر طبقته الوسطى مادياً وفكرياً اليوم أكثر من الماضي القريب، واكتساب أفراده خبرات خلال العقود الأخيرة في الضغط على السلطة بوسائل مدنية وسلمية لانتزاع مكاسب في مجالات الحريات والحقوق، واستفادته المثالية من التكنولوجيات الحديثة، ودينامية مجتمعه المدني، قد أحدثت تحولات مجتمعية عميقة، بعيداً عن أعين بعض المراقبين.
في وضعٍ مثل هذا، يجب على المسؤولين في الدولة أن يسمحوا فوراً للمؤسسات المنتخبة بأن تؤدي دورها الكامل في الوساطة وتدبير السياسات العامة، وأن تعمل الدولة من أجل أن تتمتع المؤسسات السياسية بمصداقية لدى المواطنين؛ لأن التغيير العميق آتٍ لا ريب فيه. قد يستغرق أمره بضعة أشهر، كما قد يستغرق سنوات قليلة جداً. لكن مجتمعاً مغربياً مختلفاً في طور التشكل الآن، وسنصل إليه بسلوكِ واحدٍ من طريقين لا ثالث لهما: طريق التغيير المتدرج من داخل مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية ذات مصداقية، أو طريق الشارع الذي سيبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات.
إننا فعلاً على بُعد خطوة واحدة من وضعٍ مغربيٍ جديدٍ يتشكل، وعلينا أن نكون على وعي تام بمقتضيات ذلك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.