محسن فكري بين صراع “الكرامة” وذل “القمامة”.!

محمد البوعزيزي آخر يموت لنفس الأسباب، الظلم والذل، لكن بطريقة مختلفة، بأبشع الطرق: الحرق والطحن كلحم رخيص مفروم، أو مشوي سيؤكل، ويكون مآله مجاري الصرف الصحي التي تصب في البحر ليصير مآله أفواه الأسماك مرة أخرى.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/30 الساعة 10:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/30 الساعة 10:22 بتوقيت غرينتش

عندما تختلط دماء إنسان بعصير الليكسيڤيا ذي الرائحة النتنة، الناتج عن الأزبال المتجمعة والمشبعة بشتى أنواع الجراثيم والبكتيريا يجثم على العقل والروح نوع من القلق الممزوج بالعبث، أسوأ من ذلك الذي جثم على قارئ كتاب "العطر" لكاتبه Patrick Süskind، في بداية روايته حينما اختلطت دماء الرضيع الذي ولد لتوه، ورمته أمه تحت طاولة الأسماك، ليختلط دمه ومشيمته برؤوس الأسماك وقشورها ودمائها، فيستنشق كل تلك الروائح النتنة، ويكبر ويصير قاتلاً بعد أن ترسَّبت كل مفاهيم الظلم والبؤس في حواسه بعد لحظات من قدومه العالم.

الفرق بين هذه القصة وقصة محسن فكري، الشاب المغربي القاطن بمدينة الحسيمة في المغرب -الذي ارتمى في شاحنة الأزبال بعدما قام رجال الأمن برمي صناديق السمك التي اشتراها من ميناء الصيد، والتي كان يريد أن يبيعها بالقسط ليعيش ويعيل أسرته المكونة من أفراد عدة- هو أن القصة الأولى من وحي خيال الكاتب، في حين أن الثانية من رحم الشارع والمعاناة والواقع.

المحزن بشدة هو أن محسن شهيد كسرة الخبز لم يكن يدري حين فتح عينه ذلك الصباح أنه لن يفتحها مرة أخرى، لم يكن يعلم أن الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه، وأنه سيخسر حياته لأنه تبع السمكات التي تشكِّل مصدر قوته. في محاولة لتخيل الواقعة، تتبادر إلى الذهن صورة الشاب وجسمه متعرق يرتجف لثقل الظلم الذي حلَّ به، يصرخ كمجنون يدافع عن حقه في الحياة، وريده منتفخ يظهر جلياً، خدَّاه محمرَّان، وقلبه يخفق كأنه كان يعلم أنها آخر النبضات التي ستصدر منه. لم يفكر للحظة أن طاحنة الأزبال ستعمل وتطحنه رفقة الأسماك التي ضحى بالغالي والنفيس لأجلها، وأن لونه سيمتقع، وأن قلبه سيتوقف إلى الأبد.

لم يكن يعلم أن رائحة الأسماك ستمتزج مع جسده المنهك وترافقه إلى القبر، كل الذي قيل والذي سيقال يعتبر تافهاً مقارنة مع الروح التي أُزهقت، مع ما وقع، ومع العبث المحزن الذي يخيِّم على الوضع بكامله. وضعية اقتصادية غير مستقرة، ومنظومة هشة أدت إلى تكوين طبقات اجتماعية هشة تحارب كل يوم وتكابد مشقة العيش دون دخل قارّ، أو تغطية صحية، أو تعليم في المستوى يضمن لأولادها الانعتاق من وضع مزرٍ تطبعه الهشاشة.

محمد البوعزيزي آخر يموت لنفس الأسباب، الظلم والذل، لكن بطريقة مختلفة، بأبشع الطرق: الحرق والطحن كلحم رخيص مفروم، أو مشوي سيؤكل، ويكون مآله مجاري الصرف الصحي التي تصب في البحر ليصير مآله أفواه الأسماك مرة أخرى.

ما زلت غير مصدقة لما حصل، هل يمكن أن يموت شاب بهذه الطريقة؟ لهذه الأسباب؟ هل صرنا تحت الحضيض؟ إلى متى سندفن ضحايانا ونبكيهم ثم ننساهم ونعاود الكرة مرتين؟ عقلية العربي بصفة عامة لم تبلغ النضج الذي يسمح لها بقيادة ثورة دون دماء، تقضي على الفساد وتجتثه من الجذور، بسبب اللاوعي الذي ما زال متفشياً على نطاق واسع جداً، والذي تلزمه سنوات طويلة لفهم جوهر الثورة وإنجاحها كما نجحت ثورة الورود في جورجيا، وثورة البرتقال في أوكرانيا، إضافة إلى ثورة التوليب في قيرغيزستان. الوعي أولاً ثم تأتي بعدها الثورة العقلية التي ستهدم أصنام العبودية والذل من العقول، لتتضح الرؤية، ويلوح الغد مشرقاً بعد العاصفة.

فلا شيء يخيف الظالم أكثر من عقل متنور، ثورة عقلية هي ما يلزم كي لا نجد أنفسنا بين الطريق المسدود الذي يشكله الحاضر، وحافة الماضي التي نخشى كلنا التقهقر إليها يوماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد