أثبت التاريخ والتجربة السياسية بشكل دائم في المغرب، أن ظاهرة "الحزب الأغلبي" أو "الحزب الوظيفي" أو "حزب السلطة" أو أي من تلك الأسماء التي تطلق عادة على الأحزاب التي أنشأها مقربون من القصر، تكون مهمته في العادة محدودة الزمان والمكان، وأنه بمجرد انتهاء تلك المهمة يتم الاستغناء عن الحزب والدفع به للاصطفاف إلى جانب أحزاب الإدارة الأخرى، لتكون وظيفته بعد ذلك هي تأثيث المشهد وتكميل بعض فصوله كلما طُلب منه ذلك ليس إلا.
فكثيرون أثارتهم الرسالة المفاجئة الأخيرة لـ إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي أسسه فؤاد الهمة صديق الملك محمد السادس، حيث دعا أمينه العام في رسالة ومقال على أحد المواقع إلى ما سماه "مصالحة تاريخية مع القوى الوطنية"، وهي الرسالة التي اعتبرها الكثيرون إقراراً بالهزيمة من الرجل ورفعاً للعلم الأبيض؛ إعلاناً للاستسلام بعد صراعه مع حزب العدالة والتنمية المحافظ..
قد لا تكون "الرسالة – البيان" ولا مضمونها مهمين في حد ذاتهما، بالنظر إلى أنه مهما كان أو يكن، يبقَ إلياس العماري واجهة إعلامية فقط، لأن من يدير ويتحكم بشكل فعلي في الحزب ومن يحملون على عاتقهم فرض مشروعه على أرض الواقع السياسي والمجتمعي أرغمهم ضغط وحساسية الشارع منهم منذ 2011 للعودة إلى الخلف والتحرك من خلف ستار دون أي ظهور علني لهم.
لكن بغض النظر عما يمكن أن تحمله الرسالة من جديد للمشهد السياسي، فإن المتمعن بنظرة سريعة للوراء ومن خلال التجارب التاريخية السابقة المشابهة لتجربة حزب الأصالة والمعاصرة، سيكتشف لا محال أن ما أعلن عنه إلياس العماري قد يكون بشكل أو بآخر إعلان عن نهاية وأفول مشروع حزب الأصالة والمعاصرة من المشهد السياسي المغربي، وذلك أسوة بالنماذج السابقة التي أعلن نهايتها بمجرد فشلها في مهمتها ودورها الذي أنشئت من أجله.
فمشروع "البام" أنشئ خصيصاً لمهمة واحدة وهي مواجهة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) وكبح جماح شعبيته التي تتزايد وتتمدد بشكل مستمر داخل المنظومة السياسية..، وبما أن الانتخابات الأخيرة كان آخر فرصة للحزب لتنفيذ مهمته والتي فشل فيها، فذلك يعني بشكل آلي وتلقائي نهاية المشروع وإعلان دخول الحزب مرحلة العجز السياسي.
ففي عودة سريعة للتاريخ الراهن بالمغرب سنجد أنه كلما تم إنشاء تكتل سياسي خاضع للسلطة داخل المشهد، إلا ونجد أن ذلك التكتل سرعان ما يتفكك بمجرد فشله في المهمة أو حتى نجاحه فيها، ومَرَدّ ذلك بالأساس أن التأسيس عادة ما يكون مقروناً بهدف واحد أوحد يكون محدد الزمان والمكان.
فمنذ تجربة "الأحرار المستقلين" التي شكلت تحالفاً مع "الحركة الشعبية" وحزب "الدستور الديمقراطي" (الشورى والاستقلال سابقا) مع السنوات الأولى للاستقلال التي كان هدفها مواجهة تمدد وزحف حزب الاستقلال الساعي للهيمنة على المشهد السياسي آنذاك، إذ كان قوة سياسية تهدد وجود وسلطة القصر نفسه.
ومن بعدها نجد تجربة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية "الفديك' التي أسسها صديق الملك الحسن الثاني آنذاك أحمد رضا اكديرة سنة 1963، والتي كان الهدف منها الوقوف ضد قوة اليسار ممثلاً في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ثم مروراً بحزب التجمع الوطني للأحرار الذي أسسه صهر الملك أحمد عصمان سنة 1977، لمواجهة أحزاب الكتلة والتي جاءت في ظرفية سياسية حساسة للغاية لم تكن تقبل أي انقسام أو أي تشكيل سياسي معارض لسياسة القصر (تداعيات المحاولتين الانقلابيتين وتدويل قضية الصحراء..).
وصولاً بعد ذلك لتجربة حزب الاتحاد الدستوري مع المعطي بوعبيد سنة 1983، والذي جاء كبديل لعصمان وكمنقذ لتجربة حزب التجمع الوطني للأحرار، خاصة بعد فشله في منع الأزمة الاقتصادية المتزايدة التي تعيشها البلد نتيجة انخفاض أسعار الفوسفات بشكل كبير، تزايد نفقات حرب الصحراء، وتزايد الاحتقان في الشارع..
القاسم المشترك بين هذه الأحزاب والتجارب إذا إنها ظهرت وتقوّت وتنامت في فترة قصيرة جداً، إلا أن نجمها خفت بشكل سريع كذلك، زد على ذلك أنها لا تتأسس في العادة نتيجة لحاجة اجتماعية أو سياسية ولا حتى أيدولوجية، وهذا ما يجعلها أقرب إلى تكتل أو شبكة أكثر مما هي حزب في حقيقتها.
هذه "الشبكة – الحزب" تكون مهمتها هي القيام بالأعمال والسلوكات السياسية التي تتحاشى السلطة الظهور في الصورة حولها أو من التي يمكن أن تشكل حرجاً لها، أو بمعنى آخر أن وظيفة الحزب الأغلبي هي ضبط المؤسسات التي يصنع فيها القرار بما يحول دون خروجها عن إرادة المخزن، أو بما يجعلها لا تلعب أدواراً تتجاوز الإطار المسموح لها بذلك، خاصة في الفترات التي يضطر فيها النظام بتقديم تنازلات للمعارضة تمكنها من ولوج هذه المؤسسات.
وهناك هدف ثان لهذا النموذج من الأحزاب، وهو السعي لتبييض وشرعنة ممارسات وسلوكات السلطة "غير أخلاقية" وحتى غير الشرعية (الريع الاقتصادي والسياسي، إبعاد الخصوم والمعارضة السياسية عن دوائر القرار، التحكم وضبط التكتلات و الخريطة السياسية..) أو أي شيء يمكن أن يشكل مصدر إزعاج أو منافسة المخزن في سلطته عليه.
ففشل التجربة الحالية لـ"صديق الملك" لو تحققت، فستُعتبر كذلك إعلاناً لفشل تكتيك ونهج سياسي دأب النظام السياسي في المغرب على العمل به كلما أحس أن الأمور بدأت تنفلت من يده، إذ من سوء حظه أن الأمور لم تعد كما في القرن الماضي، حيث لا إعلام ولا رأي عام قوي ومتتبع لكل ما يدور في دواليب السلطة وصناعة القرار، ولا أي قوة أخرى يمكن أن تشكل عقبة أمام مثل هذه الأساليب، بما يعني أن تكتيك "حزب السلطة" لم يعد يفي بالغرض الذي كان يحققه في السابق، إذ يبدو أن الحركية والتحول السريع في المشهد أكبر بكثير من تخطيطات وحسابات النظام هذه المرة.
فبفشل المشروع قد يكون لزاما على النظام السياسي البحث عن بدائل أخرى؛ نظراً إلى التغيرات الجذرية التي عرفها المشهد السياسي وخاصة في شقه الانتخابي حيث تم الانتقال من التصويت المبني على العلاقات الاجتماعية (الأعيان، القبلية، العمل الإحساني.. إلخ)، إلى التصويت السياسي الذي يتم على أساس البرامج السياسية للأحزاب، وهذا ما يجعل المهمة المقبلة لو فكر القصر في إعادة تكرار الأمر أكثر صعوبة بشكل كبير من ذي قبل إذا لم تكن مستحيلة (على الأقل بالشكل الحالي).
نهاية رهان "الحزب الأغلبي" إذاً لو تمت في هذه الفترة، فهي إيذان بنهاية "سلوك سياسي شاذ"، نهاية قد لا تعني فقط زوال وأفول نجم حزب أريد له أن يكون أكثر من حجمه الطبيعي.. بقدر ما هو نهاية مشروع كان يمكن أن يكلف البلد ثمناً باهضاً للغاية، وكان سيرجعه لسنوات وربما عقود للوراء لو تكلل له النجاح وسار وفق خطة رسمية، بل يمكننا القول إنه قد تكون تجربة حزب الأصالة والمعاصرة في عمقها، هي نهاية عصر سيطرة المخزن على المنظومة السياسية برمتها، وبالتالي الإعلان الحقيقي عن بداية تشكل الديمقراطية الفعلية في المغرب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.