كان الأمل لأول مرة أن يتسم مشروع الحوار الوطني في السودان بالشمول، يسعى لإيقاع إجماع وطني وتوافق سياسي عام حول قضايا سودانية كبرى لا تزال عالقة، مكتنفة بالخلافات، منذ الاستقلال، بل إن الخلاف حولها تعمّق بكرّ الزمان وتوالي الحقب السياسية الخالفة، لكن مشروع الحوار الوطني قعد عن تحرير الأجندات واختراق التباينات السياسية مهما تعقّدت الأزمات في السودان، بما يملي ضرورة الاحتكام إلى كلمة سواء بين قواه المتدابرة.
لكن السودان منذ انتقال إدارة شؤونه السياسية لأيدي النخبة الوطنية تضمن الانتقال، منذ الاستقلال "1956" كان هنالك دستور انتقالي وجاءت ثورة أكتوبر/تشرين الأول "1964" لحكم انتقالي لم يكتمل، ومن ثم دخل السودانيون في عهد طويل "العهد المايوي 1969″، ثم جاء عهد الانتفاضة "1985" الذي لم يكتمل فيه التأسيس وإلى حين انفصال الجنوب "2011"، لكن السودان لا يزال إلى اليوم في مرحلة انتقال وتأسيس مهما تكن الأحزاب السياسية مدركة لأصل أزمة السودان تعبّر عنها بصور جليّة في خطابها كله.
إن أزمات السودان قديمة تراكمت مظاهرها السالبة ونمت عبر الحقب الوطنية من بعد أن بدأت توتراتها بأسباب من سياسة التنمية الاستعمارية غير المتوازنة التي اختطها الإدارة البريطانية بما يحقق مصالحها، لكن أنظمة الحكم الوطنية الخالفة توارثت جميعاً ذات سياسات الاستعمار، كما فشلت الأحزاب السياسية والنخب المثقفة في أن تبرم عقد ولاء يجمع مكونات قطر السودان على هويّة سودانية تصلح أساساً لوحدة وطنية جامعة.
في ختام أعمال الجمعية العامة للحوار الوطني تعهد الرئيس عمر البشير باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لإنفاذ الوثيقة الوطنية، بالتشاور مع كل القوى السياسية والمجتمعية لمتابعة تنفيذ توصيات الحوار، كما أعلن تشكيل آلية قومية جامعة لوضع دستور دائم للبلاد على هدى الوثيقة لتحقيق الاستقرار السياسي بالسودان، ووعد ببناء استراتيجية قومية وفقاً لتوصيات الحوار الوطني، بما يكفل مراجعة أجهزة الدولة وإصلاحها، وهي الخطة التي لا تعدو أن تكون حلقة جديدة من حلقات كتابة دستور، ثم خرقها وتمزيقها باعتبارها ورقة لا تحمل أي قداسة سوى أن البشير طوال فترة عهده تقارب ثلاثة عقود بذل عهوداً جمة، لكنه أبداً لم يفِ بأي من العهود التي أبرمها أو التعهدات التي بذلها طوال سنوات حكمه.
كانت التعهدات الأهم في الطريق إلى بناء الثقة وتهيئة مناخ الحوار، توجيهات أصدرها الرئيس البشير، خلال كلمته أمام قادة الأحزاب الذين اجتمعوا في أول ملتقى للحوار بقاعة الصداقة في الأسبوع الأول من أبريل/نيسان 2014، وإذ توجه البشير بخطابه لأولئك القادة، فقد قال: "اغتنم هذه السانحة المباركة لأكرر لكم رغبتنا الصادقة وحرصنا الأكيد على توفير المناخ الملائم لإنجاح هذا الحوار الوطني الجامع ولتأكيد ذلك عملاً، بعد القول فقد أصدرت عدداً من التوجيهات والقرارات.
وهي كما يلي أولاً: وجهت الجهات المختصة في الولايات والمحليات في مختلف أرجاء السودان بتمكين الأحزاب السياسية من ممارسة نشاطها السياسي داخل وخارج دورها بلا قيد لذلكم النشاط إلا من نصوص القانون..".
لم يكد يتبدد صدى كلمة البشير التي أعلن خلالها إطلاق الحريات الصحفية والسياسية والسماح للأحزاب بإقامة الندوات خارج دورها في الساحات العامة، حتى أخرجت حركة "الإصلاح الآن" التي يتزعمها الدكتور غازي صلاح الدين بياناً توضيحياً، ذكرت فيه: "أن ندوة سياسية مصدقة لحركة الإصلاح الآن كان مزمعاً قيامها في جامعة أم درمان الأهلية تم تعطيلها ومنعها من قِبل جهاز الأمن.."، بل إن الواقعة الأكثر إرباكاً كانت ملاحقة جهاز أمن البشير للإمام الصادق المهدي واعتقاله بأسباب أوهى من بيت العنكبوت، وهي ما ترتب عليها إعراض الإمام الصادق عن مائدة الحوار والهجرة إلى خارج السودان.
لكن إن تعجب فأعجب لحديث الرئيس البشير في الحوار الذي بثه تلفزيون السودان بالأمس وأداره أحد الإعلاميين المتصلين بسلطة الإنقاذ، فقد تطرق البشير إلى دستور "1998"، وعدّه أحد أفضل الدساتير التي عرفها السودان، لكنه غرض الطرف عن أنه هو شخصياً الذي نقض عهد الدستور وقوّضه نحو خواتيم عام "1999"، بل إن مجموعة من أبرز قيادات الحركة الإسلامية التي يحكم البشير باسمها ذهبت إلى الشيخ الترابي، فيما عرف بمساعي رأب الصدع من بعد مفاصلة الشيخ الترابي لسلطة الإنقاذ، فعرضت عليه التغاضي عن خرق البشير للدستور، حفاظاً على وحدة الحركة الإسلامية، تحت شعار "أخوتنا أهم من تقديس الأوراق"، وهي ذات الأطروحة التي ظلت تسيطر على عقول القادة الإنقاذيين بالتمام؛ حيث ظلت رابطة العمل التنظيمي وزمالة المكاتب التنظيمية المشتركة هي الأعلى على كل فكرة أو عهد، أو دستور تتكسر عند حدها كل القيم والمبادئ المرعية.
مثلت مسألة صلاحيات جهاز الأمن الوطني ضمن توصيات وثيقة الحوار ملمحاً جيداً لما يمكن أن تكون عليه ممارسة السلطة في المستقبل القريب، ذلك أن النظام تمسك بعدم النص على أن جهاز الأمن يعنى فقط بجمع وتحليل المعلومات دون أن تكون له سلطة اعتقال أو تنفيذ، وارتضى محاوره بعبارة أخرى هي: "أن جهاز الأمن يقوم بمهامه حسب القانون والدستور"، وهي ذات الحيثيات التي تستدعي تجربة دستور العام "2005"، ذلك أنه مهما كانت تلك الوثيقة جيدة ومشهودة من قوى دولية.
فإن نظام البشير لم يطبق منها سوى فروع، بينما انتهك غالب بنودها بما في ذلك النصوص التي تتعلق بتنظيم عمل جهاز الأمن الذي نصت بنود دستور 2005 على أنه: "ينشأ جهاز الأمن الوطني، ويختص بالأمن الخارجي والداخلي ويحدد قانون الأمن تكوينه ومهامه وتكون خدمة الأمن الوطني خدمة مهنية تركز في مهامها على جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات المعنية".
لكن وفي ظل ذات الدستور ظل جهاز الأمن يمارس الاعتقال والتعذيب، بل نمت قوته حتى أضحى قوة ضاربة تضاهي تشكيلات القوات المسلحة السودانية وتتفوق عليها عدة وعتاداً في خرق شنيع لعهد الدستور.
سوى ذلك، فإن الاحتفال الذي أقامه النظام احتفاءً بانتهاء أعمال الحوار الوطني حمل صوراً أخرى باعثة على الريب، إذ أثبت النظام سيرته التالدة في تنظيم مثل هذه الاحتفالات، إذ تم حشد الجماهير بواسطة حكومة ولاية الخرطوم، وسط ترديد شعارات ذات طابع إسلامي، وإذ تداولت وسائل التواصل الاجتماعي خطابات لأوامر رسمية لموظفين بدوائر حكومية تشدد على المداومة للمشاركة في تلك المسيرة، فقد أكمل البشير الملهاة، وهو يتوعد بملاحقة كل من يرفض التوقيع على وثيقة الحوار الوطني، وأن من لم يقبلها فهو عدو للشعب السوداني.
وقال إن من يأتي من المعارضين مسالماً سنقبله، "وإلا سنلاحقهم أينما وجدوا في الغابة أو تحت أي جحر"، وهي ذات العبارات التي تناقض بالتمام مفردات الحوار وأجواءه التي ينبغي أن تسود في مثل هذه المناسبات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.