قالت المحللة السياسة الروسية "نينا خروشتشيفا" في مقال لها: "تتلخص مشكلة روسيا في أن الدولة تنمو، لكن المجتمع لا ينمو معها، فالدولة تضحي برفاهية شعبها ورخائهم في سبيل رفاهيتها، ويظل حلم روسيا العظمى يشكل معسكر عمل قسري للعقلية الروسية".
إن كانت العقلية الروسية القديمة والحديثة لا تهتم بالإنسان المواطن داخل دولتها، فإن الإنسان خارج حدودها ما هو إلا وسيلة لتحقيق غاية واحدة هي: "روسيا العظمى المتفوقة، القوية حرباً وسلماً".
هذه العقلية تجددت دماؤها وقوي نفوذها بعد وصول "فلاديمير بوتين" لحكم روسيا الاتحادية، هذه الشخصية التي تحب التصادم وسحق الخصوم والأعداء، ولو كانوا من الضعفاء، خشية أن يتلقى منهم هزيمة متوهمة عنده.
وما فعله في حرب الشيشان الثانية لا يخفى على العالم، فحتى بعد انسحاب المقاومة الشيشانية من العاصمة غروزني أمام الرأي العام والإعلام العالمي عام 2000، حفاظاً على سلامة المدنيين، وتجنباً لمزيد من الخسائر المادية والبشرية، أصرت الآلة العسكرية الروسية -بأمر من بوتين- على قصف غروزني بجميع أنواع الأسلحة الممكنة، وقضت يومها على الأخضر واليابس، فقتلت أكثر من 35 ألف مدني، منهم 5 آلاف طفل، أمام المنظمات الإنسانية والهيئات الحقوقية.
تحرص روسيا على إظهار بربريتها وهمجيتها المعهودة فيها، كلما دخلت حرباً، يتساوى عندها البشر والحجر والشجر، والهدف: القتل، ثم القتل، ثم الاحتفال بآلاف الجثث والجماجم رمز النصر والتفوق عندها.
واليوم يحاول بوتين تكرار ما فعله في الشيشان بحلب الشهباء، بالخطة نفسها، والعقلية عينها، تدمير المدينة وتهجير أو قتل أهلها، حتى ولو استعمل في سبيل ذلك أسلحته القديمة والحديثة، ابتداء من استخدام القنابل الحرارية والفراغية، وقنابل "النابالم أو النارية"، التي تحرق كل ما على الأرض، وانتهاء بالصواريخ المتطورة جدا "X – 101″، وهي صواريخ ارتجاجية تستطيع خرق التحصينات الأرضية لملاجئ المدنيين وتدمير أهداف متعددة، المتحركة منها والثابتة، بدقة عالية.
معاناة سكان غروزني مع البربرية الروسية تتكرر مع أهل حلب السورية، فجميع المناطق التي تتعرض للقصف الروسي خالية من أي وجود لتنظيم داعش أو حتى لمقرات الثوار، فالقوات الروسية والأسدية تقصف أحياء حلب التي تحت سيطرة الثوار ليل نهار، سعياً منها للانتقام من المدنيين جراء فشلها في التقدم، أو في الحفاظ على مواقعها بحلب.
أمام هذا المشهد الكارثي واللاإنساني اتهمت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة الروس بـ"الهمجية" عند قصف مدينة حلب، وقالت: "ما تقوم به روسيا لا يندرج في إطار مكافحة الإرهاب، بل هو البربرية بعينها".
لكن البربرية الروسية ردت على شريكها الأميركي في هذه المحرقة – بالتماطل والخذلان للثورة السورية ولحقوق الإنسان ومبادئها الكونية – بتصريح للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، قالت فيه: "إنه ليس هناك شيء أكثر بربرية في التاريخ الحديث مما فعلته الولايات المتحدة في ليبيا والعراق".
الشركاء في محرقة حلب يتبادلون الاتهامات بالبربرية، فأميركا البربرية في أفغانستان والعراق وقبلهما في فيتنام، وروسيا في أفغانستان واليوم في سوريا، وبعد فشلهما في الوصول لحل سياسي بسوريا، جنحتا للتصريحات النارية، وحلب بينهما تحترق.
حلب تعيش محرقة تذكر العالم بالحرب العالمية الثانية وفظائعها؛ لأنها ميدان الصراع الروسي – الأميركي، أحدهما استخدم أسلحته القديمة، ثم جرب أسلحته الجديدة، والآخر يمنع الأسلحة النوعية عن الثوار، ويستبدها بدبلوماسية تظهر أنها فاشلة متقهقرة، لكن الغاية منها واضحة هي حماية الكيان الصهيوني المحتل من الثورة السورية، وفي الوقت نفسه محاولة استنزاف روسيا في سوريا، وتوريطها في حرب استنزاف مع المعارضة المسلحة، كما تم توريطها في أفغانستان بمواجهة الجهاديين، ثم سيبحث الروس عن الحل السياسي بسوريا بأنفسهم، لكن بشروط أميركية – صهيونية.
لقد عرفت سياسات بوتين الفشل الذريع في الشيشان وغيرها، فهو يتقن إشعال الحروب، لكنه لا يحسن قطف ثمارها، وهذا ما تحسنه أميركا وتسعى إليه بسياستها، والتي تَوهم الروس أنها مقاربة ضعيفة، جعلتهم يهرعون للحسم العسكري البربري، بعد فشل النظام وإيران والمجموعات الإرهابية الشيعية التي أتت من كُلِّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ.
لقد اعتبر كثير من المحللين أن مقتل أحمد قديروف – رجل بوتين في الشيشان – فشل ذريع لسياسة بوتين في الشيشان، والمصير نفسه ينتظر الأسد ونظامه بسوريا، فعقلية بوتين المتحجرة لن تجدي معها المفاوضات والاستعطافات الإنسانية والاستنكارات الأممية؛ لأنه لا يفلُّ الحديدَ إلا الحديد.
وعلى الساسة الروس وجنرالاتهم أن يتذكروا أن "حلب الشهباء الأبية" ليست "غروزني المقاومة"، فأهمية حلب التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية والقومية والدينية بالنسبة للشعب السوري وباقي دول المنطقة، يصعب على روسيا السيطرة عليها بسهولة، ولو بلغت ببربريتها منتهاها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.