مرت انتخابات السابع من أكتوبر/تشرين الأول في ظروف قالت عنها وزارة الداخلية إنها كانت عادية، وأكدتِ القرائنُ الكثيرة أنها كانت غير ذلك، وكما كان متوقعاً حصل القُطبان اليمينيان "المتصارعان ظاهرياً" على معظم أصوات الكتلة الناخبة التي ذهبت إلى مكاتب التصويت، في حين عرفت مجموعة من الأحزاب التاريخية تراجعاتٍ كارثية هي الأسوأ لها منذ تأسيسها، في ظل استمرار عزوف انتخابي منقطع النظير، كان ولا يزال يضع مصداقية العملية السياسية في المغرب محط جدل كبير.
ولَئِنْ كانتِ النتائجُ قد أسفرت عن فوز حزب العدالة والتنمية بعدد يفوق ما كان قد حصل عليه من مقاعد في اقتراع 2011 التشريعي، فإنّ حزب الأصالة والمعاصرة هو الآخر لم يفشل، وحلَّ ثانياً بعدد كبير من المقاعد بلغ 103، وفق سيناريو كان منتظراً، بالنظر إلى حجم البروباغندا الدعائية الضخمة التي لازمت هذا الكائن الانتخابي المحدَث منذ ولادته الهلامية سنة 2008.
ولعل أكثر من دفع ضريبة هذا الصعود الدراماتيكي للوافد الجديد هي أحزاب الكتلة الديمقراطية، التي تعدُّ سليلة الحركة الوطنية تاريخياً، وهي التي كافح رموزها ضد المستعمر سنواتٍ قبل الاستقلال، وواكب مناضلوها على امتداد عقود مسارَ بناء الديمقراطية المتعثرة في البلاد، وها هي اليوم تبصم على أسوأ مشاركة لها على الإطلاق، مما يُنذر بسيناريوهات قد تكون خطيرة في المستقبل، ليس على هذه الأطراف فحسب، بل على العملية الديمقراطية برمّتها.
وإذا كان رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران قد سارع منذ أن تواترت أنباء الانتصار إلى التصريح بأن المغاربة قد كافأوا حزب العدالة والتنمية بالتصويت الكثيف لصالحه، ملمحاً في ذلك إلى أن التصويت كان ضد "التحكُّم"، ورغبةً من الشعب في "مواصلة الإصلاح"، فإن الأمر لا يعدو أن يكون خطاباً دعائياً اعتاد الحزب استخدامه كلما لاحت في الأفق بوادر للأزمة أو للانفراج مع تدوير طفيف للمصطلحات وترتيبها في الجُمَل حسب السياق والظرفية، وإلا فكيف يُعقل أن نصدق أن الشعب المغربي الذي ترزحُ فئاتٌ واسعة منه تحت نير الأمية بشقيها الحرفي والثقافي.
ولا يستقطبُ الخطابُ السياسي منه إلا فئاتٍ صغيرة تتوزع قراءاتُها الأيديولوجية والتقديرية غالباً بين الفهم واللافهم، قد قامَ بتصويتٍ مُساندٍ لمنظومة الإصلاح؟ وهو أَمْرٌ ليس وارداً حتى في أعرق ديمقراطيات العالم؛ حيث ترتفع نسب الوعي والتعليم، ولا تجد الأمية موطئ قدم داخل تركيبتها السكانية.
فهل يُمكن للمواطن البسيط في المغرب أن ينسى هكذا بسهولة ما تبنّتهُ الحكومة من إجراءات مسّتْ بالصّميم حياة المواطن ونمط عيشه، وضربت قدرته الشرائية إلى مستويات قياسية بحجج اقتصادية فضفاضة لا يستع المقام للخوض فيها؟
والذي لا شك فيه أبداً أن أهم ما يعني المواطن الفقير من أمر السياسة والاقتصاد هو قوت اليوم، وأسعار المواد الأساسية، وثمن المحروقات، وفرص الشغل والسكن، وجودة الخدمة الصحية، ووضعية المدارس والمؤسسات التعليمية التي تحتضن أبناءه، وعليها يعول في ضمان مستقبل أفضل له ولهم، أمْ أنَّ الشعب بات يستوعبُ معطيات من قبيل انخفاض العجز وارتفاع مستوى الأداء الحكومي، وصعود معدل الجاذبية الاستثمارية، والقدرة التنافسية، وتنامي حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة، التي يُسْهِبُ وزراء العدالة والتنمية في التفصيل فيها كلما أطلّوا من إحدى نوافذ الإعلام العمومي؟
فهل وصل المغرب بشرائحه الاجتماعية المسحوقة حقاً إلى هذا المستوى من الوعي السياسي والاقتصادي العميق حتى يُفَضِّلَ "الإصلاح البنيوي العميق" على حساب قوته اليومي؟
فلماذا لا يكون الأمر بالأحرى تصويتاً مؤدلجاً وعاطفياً في نفس الوقت، تُفسّرُهُ أساليب التفكير السائدة داخل المجتمع، التي تقدسُّ كل خطاب يَمْتَحُ مِنَ الحقل الديني، وتؤكده بالبراهين حالة الاستقطاب الإعلامي الكبير الذي تمارسه الآلة الدعائية للإسلام السياسي في مواجهة الآلة الرسمية منذ مدة طويلة على مستوى العالم العربي ككل، في ظل التجاذبات الحاصلة بين الأنظمة العربية والتيارات الإسلامية والمغرب ليس قاعدة استثناء بالطبع.
كما أنه على الأرجح تصويتٌ له علاقة مباشرة بمفهوم العقاب بمعناه السياسي المُركّب، لكنه هذه المرة لم يكن عقاباً للحكومة كما كان معتاداً -وإن كانت تستحق ذلك بالنظر إلى الحصيلة- بل كان بالأحرى عقاباً للمعارضة على ما قامت به طيلة هذه السنوات، ورفضاً مُسبقاً لما تعتزمُ تقديمه في المستقبل.
وقد يكونُ رفضاً لوجودها من الأساس، وأنا هنا أعني تلك المعارضة التي لا تعارضُ شيئاً، والتي على كثرة ما تقول فهي لا تقدم أي بديلٍ مجتمعي أو اقتصادي أو سياسي، وربما لا تملك الشرعية لتقدمه أصلاً، تماماً ككونها لا تملك الجرأة ولا استقلالية القرار، فعن أي معارضة نتحدث؟ إنه إذن تصويت عقابي وعاطفي ليس إلا.
وبالعودة إلى نتائج حزب الأصالة والمعاصرة والأثر الذي خلفته على الوسط التنافسي في المشهد السياسي بالمغرب، فمن المهم أن نتذكر جميعاً تاريخ هذا الحزب الذي انبثق حديثاً عن حركة "لكل الديمقراطيين"، والتي كانت تضم خليطاً سياسياً غير متجانس الأركان وغير مفهوم السياق، جمع بين مجموعة كبيرة من "متقاعدي اليسار"، وبين كتلة من مختلف أطياف البورجوازية المغربية.
خليطٌ لم يكن ليأتِي بحسب كُلّ المنطقيين إلا بعد نيةٍ مخزنيةٍ مُبرمةٍ لإقبار مشروع الانتقال الديمقراطي المتعثر أصلاً، وفق خطة كانت ترمي إلى إغلاق الحقل السياسي بشكل كامل، والتحكم بخيوط المشهد الانتخابي من جديد على نحوٍ يعيدُ نظام المخزن إلى مُربّعه الأول، قبل أن يعصف بذلك كلّه حراكُ 20 فبراير/شباط 2011 -الربيعي الشبابي- الذي كان حزبُ العدالة والتنمية رغم مقاطعتهِ لهُ أكبر مستفيدٍ منهُ، فقد قطفَ كما هو معلومٌ ثماره الانتخابية بالكامل، ودخل عبر بوابتهِ إلى هرم العمل الحكومي لأول مرة في تاريخه، ولعله كاد يتغوَّل أكثر من ذلك ويبدأ بفرضِ شروطهِ الخشنة على النظام السياسي في المغرب، وإنْ بشكلٍ غير مباشر، بعد أن كان تعاطيه دائماً مع نظام المخزن تعاطياً ناعماً فرضتهُ موازين القوى وزكّاه الخط السياسي العام للحزب.
والذي كان ولا يزال يتبنى خيار الاحتواء لا المواجهة، لولا أن النظام السياسي في المغرب كان على قدر كافٍ من اليقظة، فسارع بعد خُفُوت صوت الحراك الشبابي في الشارع مباشرةً إلى إحياء مشروعه القديم الجديد، مُدَعِّماً إياهُ بترسانة من الميكانزيمات السياسية على مستوى الخطاب والأيديولوجيا عبر إدماج أسماء يسارية وازنة أتعبتها المعارضة، وبكم هائل من اللوجيستيك المادي الذي لم يكن ليمتلكهُ أي حزب في العالم الثالث لم يبلغ عمره أكثر من بضع سنوات ونيّفاً لولا أنّ وراءهُ بالفعل من وراءه، وكل هذا حقق للنظام السياسي في المغرب شيئين أساسيين:
الأول حفظ له التوازن السياسي المعقول على مستوى القوة بين الكتل المشاركة في المشهد السياسي، فامتص بذلك تيار الهيمنة التي كان على وشك أن يمارسها حزب العدالة والتنمية على المعترك السياسي.
والأمر الثاني خلقَ لهُ جوّاً ديمقراطياً صورياً شكّلَهُ الاستقطاب الوهمي بين تيارين سياسيين متصارعين على الواجهة بقالبين؛ أحدهما محافظ، والآخر حداثي، لكن الواقع يقول إن كليهما يدور في فلك المركز ولا يخرج عن سياق المسموح به قيد أنملة، فنحن لا نتحدث هنا إلا عن اليمين واليمين.
ظهور الوافد الجديد "البام" واشتداد عوده بعد مرحلة من الجزر، وبغض النظر عن تحالفه المرحلي مع قسم مهم من المعارضة البرلمانية، إلا أنه بات يشكل خطراً وجودياً على أحزاب تاريخية، خطراً لا يوازيه إلا ذلك الذي يمثله حزب العدالة والتنمية، والذي أصبح بين عشية وضحاها يحل محلها في حلبة الصراع، أعني به الصراع الذي كانت تخوضه في مرحلة سابقة أحزاب الكتلة الديمقراطية، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي، ضد كومة كبيرة من الأحزاب الإدارية الموازية، التي وُضِعَتْ عُنوةً لتعديل الكفة وموازنة القوى السياسية بعضها ببعض، بغية حماية الخط الأمامي للنظام السياسي وإبقائه دوماً بمنأى عن المواجهة الصدامية.
واليوم نرى وكأنَّ هذه الأحزاب السياسية التاريخية قد رُمِيَتْ خارج اللعبة، وتم تحجيم دورها في اللعبة، بعد أن راحت ضحية الاستقطاب الحاد بين الاتجاهين، ولا يبدو أنها قادرة على القيام بأي ردة فعل في ظل غياب النظرة النقدية لقياداتها المُترهّلة.
وبعد أن أصبحت جميعها في غفلة من الزمن أحزاباً هجينة بين إملاءات الإدارة ونزعة الاستقلالية التاريخية، فلا هي إلى هذا، ولا إلى ذاك.
مِنْ هُنا يجبُ علينا أن نفهم كيف جاء التفوق الذي حصل عليه حزب العدالة والتنمية، والذي لم يكن مفاجئاً بالمرة، وإذا كانت الآلة المخزنية لم تعد قادرة على التحكم بنتائج الانتخابات بنفس الشكل الذي كانت تقوم به في السابق، فإنها في المقابل ما زالت تتدخل بأشكال كثيرة على مستوى البنية وطريقة الإشراف على العملية الانتخابية بمقاربة تجعل من الصعب على فاعل سياسي ما أن يجعلها تخرج عن نطاق السيطرة، فاستمر المال الانتخابي، واستمرت المافيات الانتخابية في الحصول على تزكيات الأحزاب، وظل التغاضي عن المخالفات هو السمة المميزة لكل المحطات الانتخابية التي شهدها المغرب سابقاً ولاحقاً.
ولا تزال "الداخلية" بإشرافها على الانتخابات وإصرارها على اعتماد قاعدة اللوائح الانتخابية التي لا تشكل إلا النزر اليسير من الكتلة الناخبة الحقيقية، رغم وجود البطاقة الإلكترونية وتعميمها، مع بقاء التقطيع الانتخابي غير المتكافئ وغير المنطقي بين مختلف المناطق مع خلط غير مفهوم للأرياف بالمدن، وكلها عواملُ تأثير غيرُ بريئة عنوانها الرئيسي: التحكم ولا شيء غيره.
وعلى الرغم من كون نتائج "العدالة والتنمية" تثبت بالملموس مُقاومةً مشهودة منه لكل هذه الإرهاصات المتدخلة في العملية الانتخابية، فإن للأمر علاقة مباشرة باعتماده الكبير على المرجعية الدينية في بنية الخطاب الذي يستخدمه مع الهيئة الناخبة، مستفيداً بذلك من سنوات طويلة من التأثير الإعلامي، والنزوع المحافظ في المخيال الثقافي للإنسان المغربي البسيط.
كما أنه استفاد بشكل كبير من ضعف الأحزاب الأخرى تنظيمياً من جهة، ونظراً لاهتزاز صورتها من جهة أخرى بعد مجموعة من المحطات السياسية المتوالية التي أثرت سلباً في قدرة هذه الأحزاب على الصمود، لا سيما في المدن الكبرى مركز الطبقة المتوسطة.
ولعل من اللافت في هذه الانتخابات الأخيرة، هو الصخب الإعلامي والفيسبوكي تحديداً الذي واكب حملة ترشح فيدرالية اليسار الديمقراطي، والتي تتشكل من أحزاب ثلاثة تعتبر امتداداً فكرياً وتنظيمياً لتيارات يسارية قديمة في المغرب تتبنى اليوم أيديولوجيا وسط اليسار الجذري، وتُصنَّفُ إضافة إلى حزب النهج الديمقراطي المقاطع ضمن التيارات الممانعة داخل تركيبة اليسار المغربي الذي يعد إحدى أهم تجارب اليسار في العالم العربي.
ولقد كان من اللافت حقاً حجم التعاطف الكبير الذي لقيه هذا اللاعب الجديد بعد عودته من المقاطعة من طرف كوكبة كبيرة من المثقفين المستقلين وشريحة واسعة من المدونين في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن ذلك في الواقع لم يكن له أي انعكاس على مستوى النتائج، فلم تحقق فيدرالية اليسار سوى مقعدين يتيمين في هذه المحطة الانتخابية، وفشلت في الوصول إلى عتبة اللائحة الوطنية.
وإذا كان هنالك من تفسير يمكننا أن نقدمه لهذه النتائج، فسنخلص بالضرورة إلى استنتاج يفيد باعتماد القطب الأول، والمتمثل في حزب الأصالة والمعاصرة، على المال الانتخابي، وسلطة الأعيان، وتسخير مختلف أدوات العمل الانتخابي في صالحه، بما في ذلك قواعد اللعبة الانتخابية التي تشرف عليها وزارة الداخلية، شأنه في ذلك شأن بقية الأحزاب الإدارية المصنوعة، وحتى الأحزاب التاريخية التي تم تدجين بعضها بشكل متفاوت.
بينما نجد أن اعتماد حزب العدالة والتنمية في المنافسة كان على عاملين أساسيين هما على التوالي: الخطاب الديني الذي يلعب على تراكمات عاطفية مشكلة من رواسب التوجيه الإعلامي والتربوي، والذي جعل جزءاً كبيراً من المجتمع عاجزاً عن التمييز بين الأحزاب الإسلامية والإسلام نفسه، إضافة إلى استفادته من ضعف الأحزاب الأخرى هيكلياً، وهزالة خطاب الكثير منها.
في الوقت الذي لا يمتلك فيه الاختيار الثالث ممثلاً في فيدرالية اليسار إلا عاملاً مساعداً واحداً هو الوعي وخطاب العقل، والدعوة إلى نشر قيم الحداثة التي تمتح من مفاهيم العدالة الاجتماعية والكرامة والديمقراطية الكاملة، وكلها مفاهيم من الصعب أن تصل إلى مجتمع المغرب العميق على الأقل في الفترة الراهنة، في ظل أجيال متتابعة خرجت من نظام تعليميي لا ينتج إلا الفشل، وبينه وبين الوعي مسافات وأشواط.
إلا أن كل هذا لا يعفي اليسار الجديد ومن معه من التيارات الديمقراطية الأخرى من المسؤولية؛ لأن كل مشروع للتغيير لا ينطلق من معطيات الواقع ولا يخاطب الإنسان وفق معطيات الراهن والمتوفر، ولا ينطلق من رؤية تستهدف المدى البعيد وتقفز على إكراهات الزمن ولا يوازن أصحابه بين حجم المطالب وموازين القوى الموجودة، هو حتماً مشروع محكوم عليه بالفشل؛ لذلك فإن نضال الديمقراطيين في المغرب لا يزال طويلاً، ويحتاج إلى الكثير من الصبر والتبصّر، ومسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، كما يقال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.