أرأيتم؟

مِعتُ من قبل أن أصعب الوظائف ينفرد بها جراحو القلب وصانعو المركبات الفضائية، إلا أنه اليوم وبعد خوضي في غمار تجربة كوني مُعلِماً، أدركتُ بلا أدنى شك أنها أصعب المهن وأكثرها تأثيراً على المدى الطويل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/06 الساعة 02:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/06 الساعة 02:55 بتوقيت غرينتش

سمِعتُ من قبل أن أصعب الوظائف ينفرد بها جراحو القلب وصانعو المركبات الفضائية، إلا أنه اليوم وبعد خوضي في غمار تجربة كوني مُعلِماً، أدركتُ بلا أدنى شك أنها أصعب المهن وأكثرها تأثيراً على المدى الطويل.
عندما كنتُ بالصف الأول، وفي يوم من أيام مايو/أيار اللطيفة، خططت المدرسة لتعريفنا بوظيفة إطفائي الحرائق، لم تكن مجرد حصة فصلية يجتمع فيها الورقة والقلم، بل كانت تجربة كونك الإطفائي الصغير… أحضروا لنا سيارات الإطفاء الحمراء، وعبأوا الخزانات بالمياه، وارتدينا خوذات رجال الإطفاء، وقمنا برش الماء من فوهة الأنبوب مباشرة كأننا نطفئ ألسنة النار المشتعلة بأنفسنا، ركبنا على سلم الإطفاء وعشنا المغامرة.. ومنذ ذلك اليوم، قررت أن أصبح إطفائياً.
أرأيتم، كيف لحصة تطبيقية واقعية واحدة أن تؤثر في حياة طفل بأكملها؟
ولم يكن التعليم مرتبطاً بمدرسة فقط، فقد كنتُ أتردد على جامع قريب منّا في شهر رمضان لأتلو مع شيخ الجامع وثلة من الأطفال بعض الأذكار الجميلة، وإذ بالشيخ يستمع لصوتي مردداً فيأتي لي ويشرّفني بأن أرفع أذان صلاة العشاء في إحدى الليالي.. يبدو لي أن الفرحة الغامرة تلك قد طغتْ عليّ، الأمر الذي أدى بي إلى أني أخطأتُ مرة أو مرتين في ذلك الأذان، وبدا الحضور منزعجاً من ذلك، إلا أن دعم الشيخ لي بنظراته كان الدافع لي أن أكمل بنجاح، ولكي يثبت لي أنه لم ينزعج من ذلك مطلقاً، أتاح لي الفرصة مرة ثانية وثالثة ورابعة!
وكيف كانت النتيجة؟… أداء متقن في تلك المرات.
أرأيتم، كيف لدفعة معنوية من كبير أن تصحح من أداء طفل بشكل ملحوظ؟
قالت لي: تعرف معنى مراسل؟، فقلت: نعم، قالت: ستكون مراسلاً ناجحاً!
بهذا السؤال، قامت أستاذة اللغة العربية بالصف الثامن بدعمي لكي تكون اللغة العربية اللغة المفضلة لي في جميع أحاديثي الرسمية، وكانت البداية من خلال حصة اللغة العربية، حينما كنّا نقرأ فقرة من المنهج، ثم تطلبْ منّا أن نقف ونتحدث عن تلك الفقرة مستخدمين كلمات وتعابير وأساليب من عندنا… أعترف أني كنتُ أستمتع بتلك الجزئية في الحصة وأستمتع بإنصاتها لي، وكأني أقول كلاماً مهماً، فقد أعطتني صنارة وقالت ها هو البحر!
وقد اصطدتُ سمكاتي الأولى في الكتابة، وكتابة الشعر والنثر، والشجاعة الأدبية، واصطدتُ سمكاتي الكبيرة عندما حاضرتُ بالفصحى، ناقشتُ مشروع تخرجي بالفصحى، وكتبتُ مدوناتي بالفصحى!
أرأيتم، كيف أن دور المعلم يتمحور حول اكتشاف الموهبة ونفخ الغبار من عليها؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد