في البداية لا بد من التدقيق في مصطلح "الخيار الثالث" الذي استوردته نخبة فكرية وسياسية أخيراً من أوروبا، وبالضبط من دول اليونان وإسبانيا وإيطاليا، إلى المغرب، وكان من المبشرين به الناطق الرسمي باسم القصر الأسبق وأحد مثقفي "المخزن الجديد" حسن أوريد، وأحد تمثلاته السياسية حزب سياسي معارض يدعى الاشتراكي الموحد، هذا المصطلح الفضفاض الغريب عن بيئة سياسية لم تعِش بعد الديمقراطية ولا الحداثة والحريّة كما يصورها هذا الخيار الذي نشأ في بلاد أوروبية عاشت أزمات اقتصادية كادت تنهار بسببها.
خيار تزعمه تيريزا وهو تجمع يساري في اليونان وتزعمه بوديموس في إسبانيا والحزب الأخضر في إيطاليا، ولكل قصته ومساره، إلا أنهم يشتركون في ظروف النشأة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المساعدة لظهور هذا اليسار الجديد، لكن ما دخل الاشتراكي الموحد في كل هذا؟ وهل نحن نشبه إلى حد ما هذه الدول؟ وهل يتوافق البرنامج السياسي لبوديموس وتيريزا مع الـ PSU؟
قبل الإجابة عن السؤال، لا بد من معرفة دقيقة بمسار الاشتراكي الموحد، وهل فعل يشبه بوديموس وتيريزا، من الناحية النظرية صحيح ينتمون لنفس المدرسة الفكرية "اليسار" لكل مع وجود بعض الاختلافات المرتبطة بالواقع السياسي لكل بلد، واقع يفرض نفسه على المرجعية الفكرية لكل حزب، ولكن من الناحية العملية "أو الممارسة" اختلافات كبيرة جداً، وليس هناك لذكرها ورصدها، لكن نكتفي بأبرزها لنفي الخلط الذي يريد أن يؤسس حزب منيب بمعيّة مثقفين ذكرت أسماؤهم أخيراً في لائحة خدام الدولة، أول هذ الاختلافات هي أن حزب "بوديموس" برز في إسبانيا بفضل أزمة غير مسبوقة لم تطل الاقتصاد فحسب، بل أيضاً المؤسسات التي نخرها الفساد الذي طال الأحزاب التقليدية والشركات الكبرى والنقابات وحتى ابنة الملك خوان كارلوس، وكذا وهذا الأهم هو الموقع الاجتماعي والسياسي لهذا التجمع اليساري الذي استطاع بفعل منظمات المجتمع المدني أن يؤطر العمال والفلاحين والطبقة المتوسطة، خصوصاً الموجودة في إقليم كتالونيا.
رغم أني كنت معجباً بهذا التيار وقرأت ورقة تأسيسه التي أرسلها لي أستاذ جامعي، ولكن بعد الانتخابات الإسبانية وبروز أحداث متتالية وجدت أن بوديموس ما هو إلا إجابة عن أزمة كتالونيا السياسية بعد تصاعد مطالب بالانفصال عن المركز، ومقارنته مع حزب منيب غش فكري وتدليس إعلامي، خصوصاً أَن هذا الحزب أسسته نخبة المخزن "بنشماس، إلياس العماري، وو"، ولا يزال أعضاء في المكتب السياسي لهذا الحزب مناصرين لحزب الأصالة والمعاصرة الذي يمثل اليوم "المخزن الجديد".
لو سمع هؤلاء لكلام الجابري لعرفوا قيمتهم في المجتمع والدولة، لكن جحودهم وتكبرهم النخبوي ذا النزعة الإقصائية جعلهم غائبين في المكان الموضوعي لليسار، يقول الجابري: "إنه لم يعد هناك تطابق بين اليسار كتنظيم "الجانب الذاتي" كما بقي موروثاً، وبين الموقع الاجتماعي "الجانب الموضوعي" الذي هو أصلاً موقع اليسار.. وبما أن الدين أصبح ملاذاً وشعاراً للقوى التي تصنف موضوعياً ضمن اليسار، أي أن الحركات الإسلامية المعتدلة بتعبير الجابري هذا ضمن خانة اليسار، يعني موقع اليسار التاريخي اليوم يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية، الذي بدوره سيفقد مكانه، ولكن ليس الآن، بل بعد توافر شروط معينة ستؤدي به للسقوط، كما سقطت أحزاب عريقة.
منيب لم تستفِد من دروس المهدي بنبركة، وهو الذي اقتنع بأن العرض الموضوعي لأخطائنا التاريخية هو السبيل الوحيد لإعداد هذا الجيل (جيل الشباب في مرحلة الستينات في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حسب ما كتبه في الاختيار الثوري، وهو نفس الأمر يقع لليسار الذي فقد شعبيته في صفوف الشعب) لخوض المعارك المستقبلية؟، وطرح فكرة التكوين الأيديولوجي من أجل إعداد هذا الجيل لصراعات المستقبل (هذا ما سعى إليه بنبركة في كتابه الاختيار الثوري)، معرض هذا الكلام هو المقارنة والموازنة بين ماضٍ محترق وحاضر يحتضر، بين زمن الأيديولوجيا وبين زمن البريكولوجيا، وأخيراً بين بنبركة ولشكر ومنيب والخيار الثالث وبئس المقارنة التاريخية.
وقد يطل علينا أحد مثقفي هذا التيار منذ بداية تشكيل المخزن الجديد، في مقال له يقول فيه "كلمتان هما: الخيار الثالث… لا أدري من كان له شرف التفوه بهما، لكنهما أصبحتا، اليوم، تؤثثان سياسة الحزب المغربي المعارض، الحزب الاشتراكي الموحد، الذي قاطع دستور الربيع المغربي سنة 2011 وكذا الانتخابات السابقة لأوانها في نفس السنة، والذي قرر بعد مخاض عسير التنافس على مقاعد انتخاب برلمان 2016… تُذَّكِرني هاتان الكلمتان من حيث قوتهما ووقعهما وسهولة انتشارهما، بشعار باراك أوباما "يس ويكان"، وكذا شعار حزب بوديموس الإسباني "سي سبويدي" وهما يَعْنِيَان "نعم نستطيع"، "هل نضحك أم نبكي؟"، هل هذا الكلام واقعي، اذكر هذا الكاتب إن حتى ما تسمونه في برنامج حزبكم بالأصولية التي تتوعدون بمحاربتها، وأقصد زعيم حزب العدالة والتنمية الذي افتتح السنة الماضية حملته الانتخابية برسم استحقاقات 4 سبتمبر/أيلول 2015، بشعار "yes we can"، هل بدوره جزء من الخيار الثالث، كفى من التدليس وممارسة الوصاية الثقافية على الشعب.
فالخيار الثالث للحزب الاشتراكي الموحد المغربي يعني أن هذا الحزب هو خيار آخر بالنسبة للمغاربة، وهو خيار يتعارض مع الخيارين الرئيسيين المتنافسين بقوة على المرتبة الأولى في الانتخابات العامة للسابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016، العدالة والتنمية والخيار الثاني "الأصولية المخزنية"، أي حزب الأصالة والمعاصرة، هو في الحقيقة خيار المخزن الثالث الذي يبحث عن قوة سياسية بديلة عن الأصالة والمعاصرة، وليس هناك أبرز دليل إلا محاولة قادة حزب منيب تأسيس حركة شبيهة بحركة لكل الديمقراطية التي أسست حزب "البام".
ولكن كيف للخيار الثالث أن يربك الحسابات وهو صادر عن حزب صغير لا تمثيلية برلمانية له اليوم وإشعاعه محدود؟ هذا عمق السؤال، الجواب بسيط، هو محاولة فاشلة لفرملة الصعود المدوي لأنصار العدالة والتنمية، وإلا لماذا رفضت منيب التحالف معه رغم أن أدبيات اليسار المغربي الديمقراطي ليست لديه مشكلة مع القوى الدينية، وإلا كيف نفسر وجود شيخ السلفية الوطني مولاي العربي العلوي في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي إبان فترة كان فيها اليسار أقوى تيار سياسي ببلدنا؟ هنا من الضروري العودة إلى ما قاله الجابري لكي يعرف حزب منيب من هو.
يقول الجابري إن "مستقبل اليسار في المغرب كما في العالم العربي عموماً يتوقف على مدى قدرته على التعرف على نفسه أو إعادة التعرف على نفسه لا كطرف مقابل ليمين ما، اقتصادي أو أيديولوجي، بل أولاً كمبشر بالأهداف التاريخية التي تطرحها المرحلة الراهنة، كمدشن لعملية الانتظام الفكري حولها وكقوة دفع للعمل على تحقيقها، إن هذا ما يجعل اليسار أو سيجعله ذا مستقبل…" (ملفات من الذاكرة السياسية لمحمد عابد الجابري)، هذا القول لما نسقطه على حال الاتحاد أو الاشتراكي الموحد يتبين لنا مدى التناقض والتنافر بين هذه الفكرة الرئيسية المعبرة عن فكر اليسار وبين ما هو موجود بسبب الانتحار السياسي، وبسبب عدم فهم اليسار لدوره في المرحلة الدقيقة التي يمر منها المغرب بعد ربيع ديمقراطي وبعد خريف داعشي استبدادي، هذا الدور الذي تحول مع أمثال منيب لنوع من الغوغاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.