– "هذه التدوينة عبارة عن زجاجة خيال مهشمة، وأي تطابق مع الواقع لمسه أحد، فذلك ليس صدفة، بل هي حقيقة، لا تخلو أيضاً من كونها عبثية مجنون، دفعت بكم للمشي على شظايا الزجاج، بلا نعل، إلى ذياك التطابق!".
عندما أغارت إحدى القبائل على مضارب قبيلته، فر هو، ومن بقي على قيد الحياة، معه إلى قبيلة أخرى، هناك تبنته زوجة كبير العشيرة، فقد رأت في عينيه نزق الثوار من أول وهلة أبصرته فيها.
احتضنته ودعمته، وربته على السمع والطاعة لها، في كل كبيرة وصغيرة.. جوعت أبناءها ليقتات هو ويشبع، ضخت فيه من ما تنتج أرضها أكثر من ما يتخيل، لكنها رغم كل ذلك، قتلت فيه الاستقلالية، فقد كان يعود إليها في تفاصيل التفاصيل.
وحتى أولئك الذين نزحوا معه، فراراً من قبل شفاه الموت، كانت تختلف آرائهم فيه، بين من يراه خانعاً لها، وذلك متنافٍ مع ما يخطب فيهم به من كلام، والبعض الآخر كان يراه براً لا متناهٍ الحدود، للأم غير البيولوجية.
أولئك النازحون بايعوه على الموت من أجل حياة كالحياة، لكنه باعهم من أجل رضا الوالدة التي تبنته، وطيلة فترة مكوثه في مضارب تلك القبيلة، كان يغني قصائد أطلال على محيا أديم أرضه المغتصبة، قصائد ثيب وبكر، ينشدها في كل ذكر.
لقد كافح طويلاً من أجل أن يسلب حقه، ممّن سلبه إياه ذات غزو عنجهي، ولكن بمكر شيطاني استطاع كبير قبيلة الغزاة أن يوقعه في فخ الصلح، ويوقعه على وثيقة سلام لا يشبه السلام.
وبعد استكانة الحديد والرصاص إلى صمت المخازن، واعتكاف المقاتلين النشامى لصمت مقابر، تضم في ثناياها رفاق السلاح والكفاح، استحال الرجال الذين كانت "شواربهم" رمزاً للأنفة ذات صيحات الحق خضم المقارعة، إلى تجار مبادئ، وبائعي وَهْم، وسقاء سراب في كؤوس القضية..
في لجج رمال التبعية، ومور سوافي الولاء لغير القضية، أخذ مسار الحق منحى غير الذي ألف، لحظتها استبدل الضيف النازح خيامه المؤقتة بألواح بيوت الاستقرار والاستكانة إلى بؤس الحال وأغوار سؤال الغد، عن ماذا ستشرق شمسه الحارقة؟!
وعن العودة إلى الماضي القريب، والبحث في غياهب عروق عالمه، تذهلك المحصلة، التي ربما، أقول "ربما"، تكون معضلة من الصعب تجاوزها.. فالقبيلة الغازية والأخرى الحاضنة، بنات عم، من صلب رجل واحد.. ولأننا تربينا على "نظرية المؤامرة"، فالمؤامرة تستحضر نفسها بشدة، وتستحقر الجميع بقوة، وتبسق بمرارة "الحدج" على وجه الجميع.. وبالصدفة مرة أخرى، فمشايخ القبيلتين لا يمتون بصلة لهما، بل اغتصبوا المشيخة ذات زمن، بصورة "ثيوقراطية"، مقيتة، وجاءت قصة نزاع الغزو والاحتضان، من الجنة والناس، كي تكون حقنة مخدر لجسد القبيلتين، وحمضاً خرافياً سكب على المنطقة الرمادية من عقولهم.
أنا هنا لست آبهاً لا بالقبيلة الغازية؛ لأني أعرف أن التوسع، مرض السلطة المعدي، ولا بالحاضنة؛ لأن مبدأ السيادة على أرضها من حقها، لكن لدي كلام ليس كالكلام، يدق كنواقيس النصارى في خافقي، ويلعلع كرصاص زمن الكفاح، أود أن أطرحه في أذن شيخ النازحين الغالي؛ ليشنف سمعه به، وليجعله منديلاً فتق بإبر المنع، ورتق بخيط "نيرة" التسييج الشائك.. وطرز من بقايا بزات الشهداء، وعطر بدمائهم الطاهرة، عله ينظف ضميرك الذي حشي بالمخاط.
أعرني أذنك بشجاعة، لأسكب لك كأس كلامي المرة كحال بني الكثيب، فقد روي لنا عن شجاعتك ذات شباب كنت فيه، تتقدم فيالق الفدائيين.. لِمَ تهرول بأهلك خلف سراب "أنف" أمك بالتبني، العالي الذي سيطرت عليه "الأنا الديناصورية"؟.. لماذا يحترق أهلك في شمعدان صحرائها القاحلة، ليضيء نور اسمها في كل مكان.. طأطئ رأسك حشمة، كشمعة تلفظ آخر أنفاس نورها، وقلي كيف تستطيع النظر في وجه حرائر القبيلة، اللواتي ترملن وثكلن.
ماذا تركت للأجيال القادمة، حين تأتي في إطار سياسة التكاثر، وهي تناغي المستقبل الجبان، وتنشد الغد المتشح نهاره بالمجهول؟.. ماذا ستقول لها وله ولهم ولهن؟ حين تأتي لحظة يسألك فيها الجمع عن ماذا صنعت من أجل المصير؟ وكيف أسهمت في بناء أكواخ اللجوء، بدل حياة كريمة على أرض الوطن؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.