في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات من الآن 25/9/2013 في تمام الساعة الخامسة عصراً، كنت أقوم بشراء بعض أشيائي لبداية العام الدراسي الجديد، بيد أني لم أشترِ شيئاً يومها! فقد تلقيت اتصالاً هاتفياً من أختي التي كان عمرها في ذلك الوقت ثلاثة عشر عاماً، تقول وهي تشهق بالبكاء: (عموري انقتل بابا)..!
لن أنساها فهي أشد لحظات حياتي ألماً، شعور لو زادوا أعداد الحروف لَمَا وصفتُه.. وقعَ الهاتف من يدي من هول الصدمة.. قُتل أبي؟!! كنتُ أعتقد أنهُ كان حُلُماً!! لكنه لم يكن كذلك، فدماؤه سالت بالفعل أمام بيتنا الواقع في مدينة البصرة بعد عودته من السوق، حاملاً في صندوق سيارته مؤونة أسبوع كامل على غير عادته!
سالت دماؤه حتى روت أرض البصرة الفيحاء، ثم أمي التي كانت قد أجرت عملية جراحية فوق الكبرى قبل يومين من الحادث، وفي ذلك اليوم تسمع إطلاق نار قريباً جداً، لتخرج بمحرم صلاتها وترى زوجها محاطاً بدمائه على الأرض! فتنحني بدموعها لتقبله متناسية ما قد يحصل لعملية ظهرها، تلك المرأة الصامدة التي أنحني لها واقبل قدميها إجلالاً واحتراماً؛ لتكون بعدها طريحة الفراش تئن وتبكي فقيدها، استعجلت فراقنا يا أبي من دون وداع حتى!
أبي.. ذكرى تتجدد باستمرار، يا لها من ذكرى تقطع القلب وتفجر نار الشوق في الأحشاء، أشتاق لك شوق جنين لأمه، شوق مغترب لبلاده، شوق ظمآن لشربة ماء تحييه!.. أشتاق لك بكل ما وراء الكلمة من لوعة فراقك وألم فقدك.
في لحظة ما شَعَرتُ بالتيه وأن الحياة أظلمت فجأة حتى ضاعت إِشراقةُ الصباح.. وما بين الأمل والألم سوى ميما كان عليّ أن أختار أين يكون موضعها.. ثم جاءت بشائر الخير تعطينا فسحة من الأمل نواصل العيش فيها ونحقق ما يجعله فخوراً بنا في قبره، فعجباً لأمرِ المؤمن كلهُ خير.. فما بين شهادة الشخص الذي غسل أبي حين رأى ابتسامته كأنه يقول: لا تُعَطِروني فقد عَطَرَني الله بالمسك!!
ورؤية أحد أصدقائه له بلباسٍ أبيض في حديقة خضراء!! والجارة التي تهرع إلى أمي باكية من شدة الفرح، لأنها ترى أبي في رؤيا متكررة بلباس أبيض جالساً في حديقة خضراء وهو يقول: قولي لزوجتي ألا تبكي على الوسادة كل ليلة فأنا بخير!! وأي بشاراتٍ بعد هذه.. فكان خيراً؟
غشيتك السكينة والرحمة يا أبي وعلى روحك ألف سلام.. ثم بعد سنة من رحيل أبي وفي مثل هذا اليوم 25/9/2014 اختار الله لي رحيلاً وطريقاً وحياة خارج أسوار الوطن، لأغادره بدموع محب لا يدري هل سيحتضن تراب الوطن من جديد أم لا؟!
في ذلك اليوم لا أنكر لأني ذرفت الكثير من الدموع حتى جفت من عيني، إلا أن داخلي كان يحمل شعورين مختلفين تماماً، شعور الطائر مكسور الجناحين الذي إما سيموت حال محاولته الطيران أو كأنه في منفى خارج عشه!
كأني على لسان السياب حين يقول:
بين القرى المتهيبات
خطاي والمدن الغريبة
غنية تربتك الحبيبة
فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه!
وشعور آخر كالمولود حديثاً وكل الوجوه حوله غير مألوفة بعد، يبدأ حياته من الصفر في مكان لا صديق فيها ولا حبيب.. ليس بعد.. لكني اخترت لـ"الميم" موضع الأمل ليكون طريقاً لي وكما قيل "تبسم فإن الله ما أشقاك إلا ليسعدك، وما أخذ منك إلا ليعطيك، وما أبكاك إلا ليضحكك، وما حرمك إلا ليتفضل عليك، وما ابتلاك إلا لأنه يحبك".
وها أنا ذا الآن أكتب هذا المقال وبجانبي فنجان من القهوة التركية الشهيرة، وأحمد الله على ما أنا عليه، فما العيش في إسطنبول إلا نعمة من الله.. بالنسبة لي طبعاً.
أما العراق فلا أملك له ولمن فيه من رفاق الدرب والأهل والأحباب سوى حبي وشوقي اللامتناهٍ، لكن ليست من أمنياتي أن أكون ثياباً آخر أموت من حرقة الشوق لوطن لم أتذوق فيه سوى طعم الألم والمعاناة وفقد الأحبة.. لا أتمنى اليوم سوى موعد يجمعني بأحبابي الذين فارقتهم، أحبابي الذين هم على فطرتهم، الذين كانوا يظنون أن الكره حب ويعتقدون أن الحقد سلام..
من كان يبكيهم ذبح شاة أو بعير ويضحكهم لعاب طفل يسيل.. أصحاب المروءة والشرف والخجل والعفاف، الذين قصدهم الراحل عبد الرزاق عبد الواحد في قوله:
خيرُ الأنام ِالعراقيونَ يا وَطني
وَخَيرُهُم أنَّ أقسى مُرِّهِم عَسلُ!
وَخيرُهُم أنهم سيفٌ.. مروءَتهُم
غِمْدٌ لَهُ.. والتُّقى، والحِلْمُ، والخَجَلُ
سلام عليك يا عراق الأنبياء والأولياء، سلام عليك يا بلد السلام يا من لم ترَ السلام يوماً.. رحم لله أبي وتقبله في الشهداء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم أملاً وسلاماً على العراق وأهله، اللهم راحة وطمأنينة وسكينة لكل من ضاقت به الأرض بما رحبت، قلنا لعله خير.. فكان خيراً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.