لا أعتقد أن عبد الإله بنكيران قد قرأ كتاب "اسمع يا سيادة الرئيس"، الذي ألفته طوماس هيلين، عميدة الصحفيين بالبيت الأبيض، في عام 2009، والذي يضم 10 وصايا وجَّهتها للرئيس الأمريكي الجديد، لكن الأكيد أن بنكيران، الذي جاءت به الأزمة إلى السلطة في 2011، أي بعد حوالي سنتين على صدور هذا المؤلف، طبَّق حرفياً أهم وصية يتضمنها الكتاب، كما صرحت بذلك هيلين نفسها، وهي "التحلي بالشجاعة والاستعداد لدفع الثمن السياسي".
لقد فتح بنكيران كما يقول الإنجليز "علبة من الديدان" منذ تنصيبه وقرر مواجهة عشرات المشاكل والاختلالات البنيوية التي ظلت تنخر الاقتصاد الوطني بـ"قلب الشجاع"، مردداً في كل مرة يكثر فيها اللغط حوله، حتى من مسؤولي حزبه وفريقه البرلماني: "لا بأس أن يخسر الحزب إذا كان الوطن سيربح"، لقد كان بنكيران مستعداً منذ البداية لدفع الثمن السياسي في سبيل فعل ما يجب فعله، في الوقت الذي فضل فيه أسلافه الانحناء أمام هذه الاختلالات وتصديرها للأجيال اللاحقة، خوفاً من تآكل رصيدهم السياسي وفقدان قاعدتهم الناخبة أو إزعاج الحيتان الكبيرة، مما جعل الاقتصاد الوطني يعاني من كُساح مزمن، تظهر اليوم تجلياته بوضوح كبير في اختلال التوازن الاجتماعي.
كان يمكن لبنكيران أن يتصرف بأنانية، وأن يضع الآلة الحاسبة أمامه ويدرس انعكاس اتخاذ مجموعة من القرارات الصعبة كالاقتطاع عن الإضراب وإصلاح المقاصة وإصلاح التقاعد وغيرها، على شعبيته وشعبية حزبه، خصوصاً أنها كانت تستهدف كتلته الناخبة والفئة التي تصوت عليه، أو كان يمكنه على الأقل تأجيل بعضها إلى أن تمر الانتخابات، لكنه فضَّل أن يتصرف كرجل دولة وليس كأمين عام حزب، كسياسي يفكر في الحاضر والمستقبل وليس ككائن انتخابي همه الأول والأخير صندوق الاقتراع، واللافت في كل هذا هو أن المعارضة ظلت تعرقل هذه الإصلاحات داخل مجلسَي النواب والمستشارين، واصفة إياها بـ"القرارات اللاشعبية".
هل كانت هذه المعارضة ستعرقل هذه الإصلاحات لو كانت بالفعل لا شعبية؟ لا، على العكس تماماً، كانت ستتركها تمر حتى تدفع الحكومة أو لنقُل الحزب الأغلبي فيها ثمن هذه القرارات.
وقف بنكيران ذات يوم في قبة البرلمان خلال الجلسة الشهرية لمساءلة رئيس الحكومة، وتحدى معارضيه بأن يصرحوا علانية بأنهم سيتراجعون عن هذه الإصلاحات "اللاشعبية" في حال فوزهم في الانتخابات، وهو ما لم يحصل قط؛ بل لقد تفاجأنا جميعاً بتأكيد حزب الأصالة والمعاصرة في برنامجه الانتخابي لسنة 2016 مواصلة إصلاح صندوق المقاصة ورفع الدعم عن السكر والغاز، حتى الأمس القريب كانوا يهاجمون بنكيران بسبب هذه الإصلاحات واليوم يعدون المغاربة بمواصلتها، في حال فازوا في الانتخابات، وليسمحوا لي أن أتساءل مرة أخرى عن السبب الذي سيدفع المغاربة لتغيير رئيس حكومة بآخر إذا كان هذا الآخر يقر بنفسه صراحة في برنامجه الانتخابي أن رئيس الحكومة الحالي قام بالصواب.
هل ربح الوطن مع بنكيران؟ نعم، لقد ربح رهان الاستقرار والاستمرار في ظل وضع إقليمي متأزم، كما أن جل المؤشرات تؤكد اليوم أن الاقتصاد الوطني بدأ يتعافى، وهل خسر حزب العدالة والتنمية؟ لا، طبعاً، والدليل على ذلك النتائج "المذهلة" التي حققها الحزب في الانتخابات الجماعية الأخيرة، حيث حصل على حوالي مليون وثمانمائة ألف صوت، أي بزيادة حوالي 800 ألف صوت مقارنة مع انتخابات 2011.
لقدر راهن بنكيران، كما قال هو نفسه ذات يوم في البرلمان، على ذكاء المغاربة، وهذا الرهان لم يخطئ؛ لأن المغاربة كافأوا بنكيران على تغليب مصلحة الوطن على مصلحة الحزب وتحملوا بعض إصلاحاته رغم أنها كانت صعبة، باعتراف بنكيران نفسه؛ لأنهم أدركوا أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح.
الرسالة كانت واضحة في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، حينما أعطى المغاربة المرتبة الأولى لحزب العدالة والتنمية، وصوَّتوا في المقابل عقابياً على أحزاب كانت توصف بأنها تاريخية.
مضمون هذه الرسالة بكل بساطة "لا نريدكم أن تسيروا الحكومة بنفس المنطق الذي كانت تسير به في الماضي"، وإلا لماذا كان المغاربة سيصوتون على حزب آخر لو كانوا راضين عن أداء الأحزاب الأخرى في التسيير؟ هذه الإشارة التقطها بنكيران في حينها وتصرف بناء على ضوئها؛ لذلك ظل يتصدر استطلاعات الرأي، متقدماً بسنوات ضوئية على أقرب منافسيه ومعارضيه.
في الختام هل سيصوّت المغاربة على أمين عام حزب يضع ضمن أولوياته إصدار مرسوم للعفو الشامل على أزيد من 40 ألف متابع بالاتجار في المخدرات، بل وتقنين زراعتها وترويجها؟ رجل يحارب ثوابت الأمة المغربية ويفكر بطريقة أقرب إلى طريقة زعماء العصابات؟ وهل سيضع الناخب المغربي ثقته في أمين عام حزب فشل حتى في إدارة حزبه ورهن تاريخه لدى قوى تحكمية كان من المفروض أن يواجهها؟
وهل سيدعمون "زعيما" آخر تساءل ببلادة داخل قبة البرلمان عن علاقة رئيس الحكومة المغربية بـ"داعش" والنصرة والموساد، جاعلاً من أب الأحزاب المغربية أضحوكة في الداخل والخارج؟ زعيم حزب أساء تقدير اللحظة السياسية كثيراً قبل أن يستيقظ على صدمة بعد انتخابات 4 سبتمبر/أيلول، عندما نفضه حليفه إلياس العماري؟ بعد كل هذا، ألا يستحق بنكيران ولاية ثانية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.