إن من أهم القضايا المجتمعية التي ينبغي أن تكون عنواناً بارزاً في جوهر وتكوين الفكر العربي المعاصر، هي إشكالية التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ظل الفوضى والتشابك المعقد للنظام الاقتصادي العالمي، حيث ما تزال الإجراءات الاستباقية لمالآت ثورات الربيع العربي، التي انطلقت شرارتها في (تونس) في العام 2010م، قد أوجدت مساحة كافية للجدل حول ماهية تلك الثورات وأبعادها المختلفة بانتظار البدائل السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تصنعها، وتقدمها كمشاريع جديدة لمرحلة لم تتضح بعد مدى واقعيتها أو عقلانيتها..
لكن ما يمكن استخلاصه من تلك المرحلة بأنها بدت وكأنها محاولة لإعادة النظر بالماضي والحاضر، والتعرف على أسباب انهيار الدول أو سقوط الأنظمة، أو تماسكها في ظل تلك الموجه لما يُسمى "ثورات الربيع العربي"، وشكلت اتجاهاً ارتدادياً سواء عبر الواقع (الافتراضي) لتلك المجتمعات أو في صميم بنائها الثقافي، وتماسكها الاجتماعي، وسياقها السياسي والتاريخي، مما أدى إلى إعادة النظر في كثير من التصورات المستقبلية من خلال استخلاص الدروس والاستنتاجات الضرورية منها على المستويات الفكرية النظرية والعملية، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي الشؤون الداخلية والخارجية.
لذلك ظلت تلك القضية قائمة في إطار دوامة الفوضى، سواء قبلنا بها أم رفضناها، تتلخص في ضرورة إعمال الفكر من أجل فهم الماضي والحاضر واستشراف المستقبل من جديد، والعمل من إيجاد مشروع حضاري يوفر البديل الحقيقي لمتاهات الوعي، بحيث يكون مشروعاً رصيناً، وواقعياً وعقلانياً، يعتمد على الديمقراطية، والمضامين الإنسانية للحضارة البشرية، يوجه مساره، ويحدد خطواته نحو الفكر الملائم، لتطلعات الشعوب، بعيداً عن الذاتية المفرطة، غير القادرة على التعامل مع الواقع الافتراضي.
من هنا نجد أهمية إيجاد منظومة من الافكار والاتجاهات التي تعبَر عن تصوراتنا عن ذلك المشروع الحضاري، والمتمثل في التعرف على مقومات بناء الدولة، والتعامل معها بحسب الاتجاهات والمضامين الفعلية التي تؤسس لعقد اجتماعي جديد يستوعب المتغيرات، ويتعامل مع المستجدات وفقاً لحركة التغير والتطور في المجتمعات سواء كانت مجتمعات تقليدية أو حداثية، لكنها تعتمد على تلك الحركة المبنية على "فهم نظريات حركة التاريخ الموجهة إلى غاية"، التي قد تشعر فيه المجتمعات بأن هنالك تجريد لواقع قائم حول مضامين احتمالية، لكنها في حقيقة الأمر قد تبدو كذلك، من حيث التعرف على حركة الظواهر فيه، وأفعالها المشتركة بفعل علاقاتها وتأثيراتها المتبادلة ثم صياغتها بقوانين موضوعية ناجمة عن دراسة البنى التشريعية والقانونية التي تنبثق من ذلك العقد الاجتماعي الجديد.
من هذ المنطلق، تجدر الاشارة إلى الخطوات التأسيسية التي تمهد لعقد اجتماعي جديد، خاصة في تلك الدول التي شهدت ثورات أو حركات احتجاجية أو انقلابية، ودفعت بها الظروف الموضوعية إلى الاحتكام إلى "الدستور"، والتعامل مع المؤسسات القائمة لتجنب ما يُسمى "العنف الثوري"، في إطار التداول الديمقراطي للسلطة بين القوى السياسية والاجتماعية القائمة بصورة سلمية، بعيداً عن العنف، حتى لا تكون مالآت تلك الثورات سواء عبر معارضيها أو مؤيديها لا تنسجم مع مستوى وعيهم الاجتماعي والسياسي، والتي يمكن أن تقود الى تدمير الكثير من اسس التقدم الحضاري الذي كسبه المجتمع في تطوره السابق، في ظل التحولات الديمقراطية الجارية.
إذ إن السؤال الأهم هو: ماذا بعد ذلك؟ الأ يمكن أن تعقب الثورات التي تنضج بعد مستلزماتها ارتدادات أو ردَّات اجتماعية وسياسية حاده تدفع بتلك المجتمعات سنوات طويلة إلى الوراء، ألا تفجر العنف الداخلي، والعنف المتبادل دون أن تعالج ما كان سبباً في قيام اقلية صغيره بانقلابها على الوضع الراهن، نتيجة لذلك فإن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب إعمال الفكر مع الاقرار بعملية التحول الديمقراطي، أي التداول السلمي للسلطة عندما تكون الأوضاع في البلاد ديمقراطية.
لذلك أصبح من الضروري -في المرحلة الراهنة- إيجاد فلسفة سياسية جديده تعمل على تحقيق المتطلبات الآتية:
-دراسة العوامل المحلية (البيئية والثقافية) وعلاقتها بالفكر الاجتماعي من خلال الثقافة السياسية السائدة محلياً وفقاً للمتغيرات: اقتصاديات النمو والتوزيع والتراكم، والتوظيف، والمنطق الأخلاقي، والدخل القومي، والتراث المعرفي، وتفاوت التنمية الاقتصادية والتغير الاجتماعي، والتركيبة السكانية، والبناء المعياري القائم، والقوانين والتشريعات، العلاقات الدولية (السياق الدولي)، والتأثير الجغرافي..
وجعل تلك المتغيرات من المسائل ذات الأهمية الجوهرية في مضمار الفلسفة السياسية خلال مراحل متعددة ومتنوعة من حيث (التفكير،الشعور،السلوك) والتي يمكن أن ينتج عنها الأسس اللازمة للخطوات التأسيسية التي تمهد لعقد اجتماعي التي تتضمن موجهات البعد النفسي للتهيئة لتلك الخطوات ومنها (مغزى المعلومات، وجوهر الثقافة،وغاية التربية، وركيزة اللغة، ورسالة الإعلام).
– تبني برامج توعوية (نوعية) تعتمد على تكامل العلوم والفنون و تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بحسب المجتمعات المستهدفة بحيث تنبأ إلى خطورة أساليب الاتصال الجماهيري الإعلامي، التي قد تحدث وعيا بالواقع، قاصراً ومحدداً، يصعب التعامل معه من وجهة نظر مستقبلية. وذلك من كون العولمة "تغير تكنولوجي" كما أشار إليها فرنسيس فوكاياما في منتدى سيئول 2013 SPEAKING FOR FUTURE بحيث يمكن من خلالها "عولمة المشاركة، وتكافؤ الفرص، وتبادل المصالح، والتنوع الثقافي، وعدالة توزيع الموارد، وتحمل الاعباء، والرقابة والتدخل العالمي" في ضوء الافتراضات حول آليات التفاعل داخل المجتمع .. (تأكيد الصراع أو رفض الاشتراك القيمي أو الاتفاق الجمعي).
-صياغة مفاهيم جديدة للمبادئ الديمقراطية في مجالات تتداخل مع الدوائر المعرفية.
-إيجاد ضمانات حول عدد من المستجدات في إطار صيغ (توافقية) تعمل على تحديد مرجعيات قواعد السلوك السياسي وعلاقته بالاتفاقيات أو التسويات السياسية المتوقعة أو المأمولة، وعلاقتها بالتسويات الاقليمية المعقدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.