قد تكون الديمقراطية فلسفة، خطة حوكمية، آلية انتخابية، شكلاً من أشكال الحكم، ثمرة نظام سياسي ديمقراطي هو نفسه متعدد الضروب والتلاوين، وذلك حسب الظروف والسياقات التاريخية والسوسيوثقافية لكل أمة على حدة، فمنها الإثني والتوافقي والتجزيئي والتشاركي… إلخ.
هي في المحصلة مفهوم سياسي تحكمه النسبية التي بدورها تحكم كل المفاهيم الكونية، بما فيها الموجودات المادية التي تبين أن أصغر ما فيها لا يعدو أن يكون جسماً مركباً من عناصر هي بدورها مُرَكَّبة من أشياء أصغر منها إلى ما شاء الله، وعليه فهي خيار لم يكن يوماً منتهى العلم أو آخر ما جادت أو ستجود به قريحة بني آدم؛ لتعلق في حفرتها ألباب المفكرين وعقول الأتباع والمريدين، حتى أصبحت اليوم، أي الديمقراطية، صنماً من أصنام العصر الذي لا تصح من دونه عبادة، ولا تستحسن بغيره كياسة!
ولو أخذنا كمثال الديمقراطية الأكثرية، وهي الأكثر شيوعاً في عصرنا الحالي لوجدناها قوية الشكل ضعيفة المضمون، أولاً لغياب نقطة مرجعية حقيقية لمفهوم الأكثرية، خاصة إن كانت الأغلبية غير مصوتة (عازفة أو غير مهتمة أصلاً)، وفي هذه الحال عن أي أغلبية نتكلم؟ هل يستوي لستة ملايين مصوت أن ترسم ملامح مستقبل ثلاثة وثلاثين مليون مواطن مغربي، وبشكل تحليلي هل من المنطقي أن تساق أمور أمة بأكملها بأهواء حزب سياسي له ثلث أكثرية غير حقيقية؟ كيف يستسيغ البعض مفهوم الحزب الأغلبي، وهو نتاج "شبح" ديمقراطية أكثرية؟! كيف لحزب أو جماعة أن تدعي شرعية ديمقراطية ما والحال يقول بعكس ذلك إلا إن كان قواده رواد فكر شمولي أو دعاة تهميش وإقصائية؟
أسئلة في رحمها رسائل جوابية واضحة حول انتفاء الشرعية الديمقراطية الأكثرية مهما ادعى المتداعون إلى قصعة الحكم، كما تنفي كل التصورات أو الخيارات التي ثم تقعيدها على هذا الأساس دون أخذ بعين الاعتبار الفئات العريضة من الغابرين أو العازفين عن الصناديق.
لا وجود لشرعية أكثرية بالمغرب إلا تلك التي تتمتع بها مؤسسات ارتقى بها الشأن والتاريخ إلى مستوى الثوابت الوطنية إيماناً، وإجماعاً وحكمة، والحكمة بذِكرها تقتضي في ما تبقى من قوى حية، أحزاباً وتيارات وجماعات نشيطة، نوعاً من التدافع والتمايز والتداول، ولنقل التناوب، والتناوب هنا لا يمت بصلة لذلك التناوب التوافقي البرلماني الذي بوأ حزباً غير أغلبي رئاسة الوزراء، بل هو ذلك "التناوب السياسي" الذي من شأنه تمكين المغرب على المدى البعيد من تجربة مختلف الرؤى التدبيرية والأطروحات التنموية إغناء وتنقيحاً لما راكمه المغرب إلى اليوم اجتماعياً، وسياسياً، وحضارياً.
لكن كيف السبيل إلى تناوب سياسي معقلن في ظل تفاوتات انتخابية فرضتها ظروف ذاتية لتلك القوى الحية أو موضوعية تتخطى بعضها الحدود الجغرافية للوطن إلا إذا كان هناك موجه ومقوم وحكم للنسق السياسي وتطوراته بشكل عام، إذاً فالتوجيه والمواكبة للعملية بأسرها في هذا السياق فعل مرغوب ومحمود على أن يخدم المصلحة الوطنية بشكل عام، ولو وجد فيه المراقب شيئاً من الخبث والمكر أو ما لا يطيقه.
ويحضرني في هذا الصدد تلك النازلة القرآنية ما بين موسى والخضر -عليهما السلام- وهي نازلة تدبيرية سياسية بالأساس، وكيف أن المبادرة بتقويم أو تعديل أمور ما على ما فيها من أضرار جانبية هي في طلب الخير والمصلحة الاستراتيجية العامة خطوات لا بد منها، وفي حصيلتها تحيي الناس جميعاً.
توجيه المشهد السياسي بالمغرب في ظل التطورات الداخلية والخارجية اليوم مطلب استعجالي ومُلحّ، وهو مبتغى إما أن يتقبله جميع المتدخلين طوعاً، تفهماً وحصافة، وإما أن يكون كرهاً وللدولة في هذا السياق كامل الصلاحية في تحقيق أهداف الاستمرارية الوطنية والسلم الاجتماعي، عليها أيضاً أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية في إدارة أزمات "النعرة التحكمية" لبعض القوى المجتمعية، التي اتخذت مع مرور الأزمان أشكالاً وأسماءً وأفكاراً مختلفة والهدف واحد وهو الاستبداد والشمولية، على الدولة أن تستثمر كثيراً في تكوين الفاعل والقيادة السياسية بما يضمن حداً مقبولاً من التفاعل الإيجابي والبنّاء حول مختلف القضايا السياسية في أفق تقارب المخرجات والقرارات.
التناوب والتداول في فقه الشأن السياسي المغربي أكثر زخماً وراهنية من سراب ديمقراطية انتخابية أكثرية ضعيفة لم تنتج حتى اليوم إلا نزعات سياسية تحكمية، آخرها حزب سياسي إسلاموي يريد تطويع أمة بأسرها بمليون ونيف من الأصوات، والمثل ضُرب هنا للتدبُّر والتعقُّل والتبصُّر لا أكثر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.