كان توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي" معاصراً لفترة اضطرابات في تاريخ إنجلترا؛ حيث بداية حكم أسرة ستيوارت بعد وفاة الملكة إليزابيث والحرب الأهلية التي وقعت بين الملكيين والبرلمانيين, شهد جمهورية كرومويل، ثم عودة الملكية، وقد ناصر الملكية بسبب إيمانه بالحاجة إلى ملك قوي لإنهاء الفوضى على النحو الذي سنراه.
نشر هوبز كتابه العمدة "الليفياثان" في سنة 1651 في عهد أوليفر كرومويل حامي الجمهورية الإنجليزية، وفيه شرح نظريته في الأصول الطبيعية للدولة؛ حيث كان يرى أنه وبسبب أن الطبيعة البشرية في الحالة الطبيعية هي شريرة بطبعها, والحالة الطبيعية هي حالة ما قبل الدولة، وهي حالة افتراضية ليس مهماً ثبوتها، هي حالة "حرب الكل ضد الكل" كما قال هوبز، وذلك بسبب بحث الإنسان عن مصلحته الخاصة وبحثه عن القوة، وهو في ذلك ينافس البشر الآخرين على مصادر الثروة والقوة.
رأى هوبز أن البشر بحاجة إلى دولة قوية تقضي على حالة الفوضى وتضمن الاستقرار ويخضع لها الكافة؛ لذلك كان هوبز من أنصار الملكية المطلقة، انحاز للملكيين في الحرب الأهلية، وهرب إلى باريس بسبب ذلك.
سمى هوبز حاكمه المطلق "ليفياثان" وهو تنين البحر العملاق الذي يهيمن على الكافة، ويتنازلون عن حقوقهم له في إطار "عقد اجتماعي" ينشئونه فيما بينهم، ولا يرتب أي حقوق على "الحاكم أو الدولة ولا يجوز لهم الخروج عليه ونقض العقد فيما بعد، وذلك مقابل الحصول على الأمن والحماية، فيجتمع عدد من الناس ويتفقون على اختيار حاكم أو هيئة حاكمة تمارس سلطتها على الجميع، ويتنازلون لها عن كل سلطاتهم، وبهذا يوجد الليفياثان الإله الأرضي الذي يدينون له جميعاً بالسلام والحماية".
كان هوبز فيلسوفاً مادياً يرى أن كل شيء يمكن تفسيره بالمادة، بداية من حركة الأشياء إلى العقل والنفس والروح، كان متأثراً بجاليليو وفرانسيس بيكون رافضاً للثنائية الديكارتية، وكتب إلى جانب اليفايثان ثلاثية تناول فيها العالم والإنسان والمجتمع متبعاً طريقة منهجية مشتقة من طريقة جاليليو.
على الرغم من ذلك نلاحظ تجلياً لمجموعة من المفاهيم المركزية في العقيدة المسيحية، وهي ظاهرة حدثت كثيراً في تاريخ الفلسفة الحديثة مثل تجلي التثليث في نموذج فرويد النفسي ونموذج مونتسيكيو الدستوري.
يرى هوبز أن الطبيعة البشرية شريرة على نحو مشابه للذي تفترضه عقيدة الخطيئة الأصلية، التي تعتبر أن البشر محملون بخطيئة الأكل من شجرة المعرفة التي ارتكبها آدم وحواء، وفقاً للعقيدة المسيحية، وبذلك يولد البشر أشراراً وفقا لمضمون هذه العقيدة.
ويحتاج البشر وفقاً لذلك إلى نوع من الخلاص يؤمنه تجسد للإله في صورته الأرضية المتمثل في الليفايثان أو الدولة أو الحاكم المطلق، كما سبق أن تجسد في "المسيح"؛ ليكفر عن خطيئة البشر الأصلية، فكما كان الخلاص والتكفير عن الخطيئة الأصلية هو عمل المسيح، فإن الخلاص من حالة الفوضى يكون من عمل الليفياثان أو الدولة.
تظهر لنا ما يمكن أن يكون شبحاً لأفكار في العقيدة المسيحية، مثل "الخطيئة الأصلية" و"التجسد"؛ بحيث يمكن أن نعتبر أن هوبز قد "علمن" المفاهيم اللاهوتية المسيحية.
بهذا المعنى أيضاً يمكن أن يكون هوبز من مؤسسي النظرة التأليهية للدولة في الفلسفة السياسية الحديثة، بحيث كما ذكرنا يرى الدولة بمثابة إله أرضي أو كيان علوي ينشئه الأفراد ليصبح أعلى من الجميع، ومقدساً من الجميع.
من الممكن أن نقول إن هذه النظرة تشيع حين تشيع الاضطرابات ويغيب الاستقرار بحيث تصبح الدولة غاية في ذاتها مثلما ظهر عند هيغل أو عند كارل شميت.
لا بد أن أوضح أن هذه التأثيرات لا تتطلب حين النظر إليها أن يكون قد قصدها هوبز أو لم يفعل على الرغم من أنه قد اشتق الاسم "ليفاياثان" من "سفر أيوب" في العهد القديم، وإن كان الأرجح أنه لم يفعل.
هدفي هنا ليس نقدياً بالمرة، ولكنه بمثابة كشف عما يمكن أن نسميه بنية المفاهيم والعقائد باعتبارها رموزاً يمكنها الظهور في نظرتنا للعالم بحيث يمكننا أن نقرأ أنفسنا بشكل يتيح مخرجاً للإشكالات التي تواجه عالمنا الإسلامي المعاصر، والعالم كله أيضاً، وذلك باعتبار أن الإسلام أيضاً يمتلك نسقاً من العقائد والمفاهيم التي تقترب وتبتعد من مثيلتها المسيحية، ومن تأثير الأخيرة في تراث الحداثة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.