بدأت بكتابات طفولية على جدران البيوت وأسوار المدارس، انتقل صداها إلى الأزقة والشوارع، ثم التمعت شرارتها إلى كل البوادي والحواضر. حاضرة حلب، الرقة، دير الزور.. فائتلق لها تاريخ دمشق وانبلجت أسارير غوطتها زيتونها والياسمين. أراد العدو-صاحبها- لها غير ما أرادت فقال: مكر دبر بليل. فقال شآمها بل كذبة خاسرة، إنما هي أصوات الحزانى والمكلومين وحناجر الجوعى والمعذبين، قد سئمت افتراء كل دجال سامر وعتل زنيم، يتاجر بالأرض والعرض وبكل ما غلى من ذكريات الطفولة وعبق التاريخ والسنين.
نزل بدابقها الموسكوف: فقاتل صبرُ أهلها كل صاروخ عابر، وأطفأت ضحكاتهم كل نار تأَجّجت، وأعاد أصغر أبنائها كل القنابل الذكية إلى المستوى الابتدائي لتتعلم الأبجدية ودروس النصر. استغاث أبلَقُها بكل نُصيري رافضي -فارسي الهوى خميني الطوية- فتحالف الإلحاد والكفر والنفاق. يريدون سحق عبقها وطمس كل آية رسمها الأنبياء والأولياء والملائكة والمتصوفون والشعراء وراقصة غجرية ما زالت تنسج ألحانها كشدو الحمَام، رغم بكاء الغمام. فانبرى لهم إيمانها يشع فيضاً وألقاً من أديرتها وكنائسها وجوامعها وشوارعها وحاراتها.. شامخ تتطاول أعناقه كالصوامع، ينادي القوم اثبتوا، هلمّوا إلى الصفوف تصافحكم يمين الله.
نزل بساحها كل نزق طائش، وزحف إلى تاريخها كل مشقوق العين واللسان: يريد نفث سمّه، يتحين ساعة الانقضاض. ليطرب كل أفاك أثيم، ويستميل الذين لبسوا عباءة الحملان وتسوروا المحراب ليتسموا بإيمانها (أولئك الذين كانوا بين بين). فقام بن الوليد يلقاهم فذا وهم جموع وحشود، لا يعلو على صليل صارمه إلا تكبير الجدات وزغاريد الأيامى والثكالى وموسيقى الصهيل.
زوراً وافتراء وبهتاناً اجتمع كل خبيث الطوية، تحت لواء الصداقة والأخوة والتاريخ والحضارة والإنسانية يريد أن يعطر كفيه وثيابه بعبق أريجها، عل وصلاً يرتجى من شآمها أو تبارك خطواته طيور دمشق. فكان يرتدي في عز أزمتها الحل والحرير ويتطيب بأفخر العطور الباريسية، وكانت دمشق حينها ترتدي أطماراً بالية، صابرة على البلوى وجور السنين وغسقها يتضوع بالمرمرية والزعتر والياسمين.
وكان منهم الذي يخفي عليها العدة والعتاد، بينما كانت دمشق تحارب بعصا -صانتها في تابوت- تشق البحر وتفتقه كالطود.
وكان منهم الذي لا خطاب له أمام النكبات والنكسات والويلات والمدلهمات، إلا الشجب والاستنكار والرفض، وفي أخطر تصريحاته الداعية إلى الحيطة والحذر يعبر عن أسفه وقلقه. ودمشق تنزف تاريخاً تنزف حضارة تنزف أبناءها واحداً تلو الآخر..
باطل الأباطيل من تسوّر الأندية والاجتماعات -الرفيعة المستوى- ليتقوّل الأقاويل، ويصفق للقاءات جديدة تُعقد في مشرق الأرض أو مغربها تبرز وجهات النظر وتقارب الرؤى، وفي الشام معركة لا تقبل الضيم، ولا تخضع للمساومات والمناورات. في الشام يقاتل الهلال النجوم، ويقاتل الآذان نفير القرون، ويقاتل تكبير المرابطين صفير أبناء الفراش المشترك، ويقاتل آخر عرق ينبض بألحان الحياة الموت الزؤام، ويقاتل دعاء الكهول والجدات قبيل السحر كل القنابل العنقودية والبراميل المتفجرة..
الكل باطل في شام الإيمان ما دامت آخر النبوءات مبشرة بأهل لها قائمين، لا يضرهم كيد الكائدين والخائنين والخاذلين والشاجبين والقلقين، وما دامت دمشق صابرة على البلوى واقفة على أعلى صوامعها ترقب أبناءها في رحلتي الموت والحياة، ترجو لهم المقام السعيد. وترفع رأسها تطرق باب السماء وترقب آخر الأنبياء يركب براق الله ومعه الملائكة مسومين، وفي أجنحتهم هدايا الميلاد لصغارها وحلوى العيد المنتظر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.