الأمن الثقافي وشهواته الفانية “1”

ما إن علمت بخبر احتجاز صديقين في قسم الأزبكية، عقب التقاط أحدهما بعض الصور من شرفته (التي تطل على البنك المركزي)، حتى تبادر إلى ذهني حوارٌ تخيلي جرى بينه وبين ضابط القسم حول التصوير، وتساءلتُ: كيف سيتسنى لأحمد نورالدين إقناع حابسيه بأن دافعَه الوحيد كان تصوير الحمَامات المتطايرة؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/07 الساعة 06:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/07 الساعة 06:53 بتوقيت غرينتش

ما إن علمت بخبر احتجاز صديقين في قسم الأزبكية، عقب التقاط أحدهما بعض الصور من شرفته (التي تطل على البنك المركزي)، حتى تبادر إلى ذهني حوارٌ تخيلي جرى بينه وبين ضابط القسم حول التصوير، وتساءلتُ: كيف سيتسنى لأحمد نورالدين إقناع حابسيه بأن دافعَه الوحيد كان تصوير الحمَامات المتطايرة؟ في واقع الأمر لم ينشغل الأمن طويلاً بواقعة التصوير وتشتت انتباهه بكاريكاتير (عن حريق العتبة!) داخل الشقة، لكن بعد يومين نشرت (رولا أبو زيد) حواراً مشابهاً دار بينها وبين الأمن في سفح أهرامات الجيزة.

كانت رولا قد اصطحبت صديقاً هولندياً رغب في تصوير الأهرامات بشكل مختلف ومن زوايا مختلفة، أثارت فكرته هواجس الأمن واستوقفهما أحد الضباط، ثم طلب مشاهدة كل الصور التي التقطها المصور الهولندي، أعادت الحادثة تساؤلي الأوسع: كيف تحاور ممثلاً للدولة في أمر كهذا؟ هل يمكن لضابط الشرطة أن يتفهم شغفاً بالتصوير، أو بالفن والأدب والثقافة والبحث العلمي عموماً؟

في أحد مشاهد فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" يحاول الكاتب "سليم" استرداد مسودة روايته التي استولت عليها خادمته الهاربة، ويدور حوار قصير بينه وبين "الصول فتحي" حول الرواية نفسها.

الصول فتحي: "تطلع بكام يعني الرواية دي؟ بربع جنيه. من الواد علي اللي جنب الجامع، الواد ده عنده روايات الدنيا كلها، من أول روايات عبير لحد أرسيم لوفين (آرسين لوبين) وشارلوت هولبز (شرلوك هولمز)…".

سليم: "يا صول فتحي، دي مش رواية مطبوعة في السوق، دي رواية أنا كتبتها، أنا ألفتها وكتبتها بنفسي".
الصول فتحي: "خلاص، تبقى أسهل، ما دام انت اللي كاتبها، اكتبها تاني، دي حتى تبقى فرصة تحسِّن خطك".

لم تختلف صورة الصول فتحي، كما صوّرها داود عبد السيد، عن أمين الشرطة الذي لم يقدر ثمن اللوحة المسروقة وقطّعها بمطواته دون مبالاة، كما جسده يوسف شاهين في "هي فوضى"، الحقيقة أن الصورتين لا تختلفان كثيراً عن واقع علاقة الأمن -والبيروقراطية عموماً- بالثقافة والفن والحريات.

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أوقف الناشط صفوان محمد في كمين بعد منتصف الليل بعد أن وجد الأمن بحوزته كتاباً عن سيد قطب، اضطر صفوان لخوض حوار مع ضابط الكمين حول الكتاب (سيد قطب والأصولية الإسلامية)، موضحاً أنه دراسة نقدية ترصد تحولاته الفكرية وأثرها في الفكر السياسي للأصوليين، لم يشفع له في حواره هذا إلا شعار (الهيئة العامة للكتاب).

أدرك الضابط أن ثمة مسؤولاً ما يمثل الدولة قد قرأ هذا الكتاب وأقره "كتاباً آمناً"، فأخلى سبيل حامله، فماذا لو كانت نسخة الكتاب التي حملها صفوان نسخة "دار طيبة للنشر"، وليست نسخة الهيئة العامة للكتاب؟ هل كل يمكن لصفوان أن يخرج من أزمته سريعاً؟ تكررت الواقعة مع أشخاص يحملون رواية "أولاد حارتنا"، أو "1984"، أثناء ذهابهم إلى الجامعة، والأمر بالطبع لا يخص رجال الأمن وحدهم، لكنه يمتد ليضم ممثلي القضاء نفسه؛ إذ ضمت النيابة العامة كتباً للمستشار طارق البشري والدكتور المسيري ضمن أحراز قضية المرشد العام.

ولم يقتصر الأمر على ممثلي الأمن والقضاء، وإنما تورط مسؤولون بوزارة التربية والتعليم حين احتفلوا بحرق كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق ضمن قائمة كتب، ضمت مؤلفات للشيخ عبد الحليم محمود والمستشار السنهوري، استنبط القائمون على التعليم المصري (من عناوينها!) أنها كتب تحرضُ بالضرورةِ على العنف، دون أن يقرأوا سطراً واحداً منها.

قد تبدو الأزمة -في ظاهرها- أن القائمين على "الأمن الثقافي" أناسٌ لا يقرأون، أو على الأقل يفتقدون الحد الأدنى من المعرفة الكافية لقيامهم بمهمة سلطوية كهذه بقدرٍ لا يورطهم طوال الوقت في مثل هذه الأفعال المثيرة للسخرية، لكن الأزمة، في ساحات أخرى، لا تكشف فقط عن صدامٍ بين من يقرأ ومن لا يقرأ، بل تتحول إلى صراع دائم حول التحرر، وأحياناً مجرد التحرر من اللغة المدرسية والإجابات النموذجية المغلقة.

ففي قضية أحمد ناجي التي حبس بسببها لم تكن أزمة ضابط لم يقرأ محتوى الرواية، فلقد قرأها وكيل النيابة بالفعل، لكنه كتب في قرار الإحالة إلى المحكمة هذا النص المثير للتأمل:

"سخّر (المتهم) أنامله لنشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء وهدماً للمثل المصطلح عليها فولدت سفاحاً مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة، وما لبث ينشر سموم قلمه برواية أو مقال في صفراء باليه حتى وقعت تحت يد القاصي قبل الداني، والقاصر قبل البالغ، فأضحى كالذباب لا يرى إلا القاذورات والنجاسات فيسلط عليها الأضواء والكاميرات، حتى عمت الفوضى وانتشرت النار في الهشيم، وجاءت تحريات جهة البحث كخرزات نظم ينحدرن توافقاً على قيام المتهم بكتابة المقال واحتوائه على ألفاظ خادشة للحياء".

كتب وائل عشري (بمجلة عالم الكتاب) أن قرار الإحالة "يبدو مثل تدريب مدرسي متحمس على كتابة مقال، وكما يحدث في الحالات الشبيهة، يجد الكاتب لذة لا تفنى، وسعادة لا تزول من مخزون لا نهائي، معدّ سلفاً، من قائمة مجازات يُعاد تدويرها باستمرار، مرة بعد مرة بعد مرة، من موضوع تعبير إلى آخر"، ووصف هذه البلاغة البلاستيكية -رغم ما بها من أخطاء إملائية- بأنها "بلاغة عمومية لا تأتي بالضرورة من معرفة عن قرب بكتب أو تراث كتابة معين، بل هو "الحس السليم" للغة كما يُدرَّس، كما يُلقَّن في مدارس الدولة، حيث مجازات تعكس خيالاً محدوداً، ومفرغة من المعنى".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد