رحل اليوم وما رحل الأثر من ذراعي بالرغم من مرور نحو ثلاثة عقود على تلك الذكرى، يومها كنت طفلة لا أفقه حديث السياسة والحرب، غير أن ذلك اليوم كان مختلفاً عن سائر الأيام التي كنا نشهد فيها القصف وتحليق الطائرات الحربية، فقد تجمع الصغار في الشارع للاحتفال بيوم سميّ "يوم النصر العظيم".
في ذلك اليوم كانت الشمس قد غابت حين سمعت أن عدداً من أطفال حيّنا "حي فلسطين"، قرروا الخروج إلى الشارع أمام أبواب بيوتنا المتراصة جنباً إلى جنب، كما كان الشعب العراقي، خرجت وشقيقتي وعدد من الفتيات الصغار مع باقي الأطفال والفرحة تغمرنا، ها قد انتصرنا في الحرب على إيران، هكذا قال لنا الكبار "انتصرنا"، وهكذا نحن الصغار بكل براءة صدقنا وفرحنا، بالرغم من أن عدداً من أطفال حيّنا تيتموا بفعل تلك الحرب.
في ذلك الوقت أشعل الصبية النار في الشارع بعد أن جمعوا عيدان أغصان يابسة من بعض الأشجار، كنت قريبة منهم كما كل الفتيات الصغار نحتفل معهم ونحمل بأيدينا أغصاناً محترقة نبدد بها بعض الظلام، ونشارك الكبار فرحة تعطشوا إليها منذ أن أعلنت الحرب شرارتها قبل ثمانية أعوام، نتقاسم الفرح وكأننا نحن الصغار جزء من ذلك الانتصار، نعم نحن كذلك لمَ لا..! صحيح أننا صغار لم نشارك في جبهات القتال، لكن آباءنا فعلوا ذلك، ألم يفقد الكثير منا آباءهم وإخوانهم وأقاربهم، ألم تهدم بيوت كثيرة فوق رؤوس ساكنيها نتيجة القصف، ألم نكن ننتظر عودة آبائنا من سوح القتال ونتشوق بلهفة لعناقهم، لكن الكثير منهم لم يعودوا، لقد رحلوا ليصنعوا لنا يوم النصر.
في التاسعة مساء كان وقت النوم حسب توقيت أمي، غير أني وشقيقتي تجاوزنا ذلك الوقت ونحن نلهو ونلعب ونحتفل مع الأطفال الصغار في الشارع، في تلك الأثناء طلت أمي من باب بيتنا تلتفتُ يميناً وشمالاً بحثاً عني وشقيقتي، نادتنا بصوت مرتفع: كفيا عن الّلهو واللعب لقد حان وقت نومكما، لكننا ما امتثلنا وبقينا نلهو ونلعب، وبينما نحن كذلك سقطت قطرة من أكياس النايلون المحترق والّذي كنا نحمله بعيدان الأشجار المحترقة سقط بعض منه فوق ذراعي الأيمن أحدث ذلك الحرق أثراً بقي حتى يومنا هذا.
إنه يوم الثامن من أغسطس/آب من عام 1988 الّذي كُلل بما سمي نصراً على الفرس، هكذا قالوا لنا، وهكذا صدقنا، وهكذا عشنا ذلك النصر، سواء كان حقاً يوم نصر أم لا، أذكر قبل عدة سنوات سألتني إحدى صديقاتي من دولة عربية: هل حقاً انتصرتم في الحرب على إيران؟ أجبتها بالتأكيد لقد فعلنا ذلك، أردفت تسألني: كم أماً أصبحت ثكلى؟ وكم زوجة ترملت؟ وكم أباً فجع؟ وكم طفلاً تيتم؟ وكم شاباً تعوق؟ وكم بيتاً تهدم؟! امتعضت من سؤالها وتمنيت لو أنها علمت أن العراق بأبنائه فعل ذلك نيابة عن العرب أجمع، أجبتها مرة أخرى رغم قناعتي بأن لا شيء أغلى من البشر، قلت: هذه هي الحرب وهذه أوزارها.
لا أنكر أني منذ ذلك اليوم وأنا أفكر بسؤال صديقتي بين الحين والحين، هل حقا انتصرنا؟ وإن كنا فعلاً قد انتصرنا! فلماذا ما زلنا نفجع كل يوم؟ ولماذا لم تنتهِ الحروب في العراق بعد؟ لم تكن الإجابة التي يتردد صداها في أذني غير أنّ "العراق بلد موبوء بداء الحرب"، إنه الداء واللّعنة الّلذين حلّا على أرضنا منذ أن خلقنا بجوار إيران، تلك الّتي قال عنها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا ينفذون إلينا ولا ننفذ إليهم".
رحل الفاروق عمر، لكن إيران بقيت تكيد للعراق الذي لم تنسَ أنه لقنها دروساً على مر التاريخ، فكانت أطول حرب في التاريخ الحديث منذ عام 1980لغاية يوم النصر العظيم 8-8-1988، حين أطل علينا المذيع الراحل "مقداد مراد"، ليذيع بيان البيانات بوقف إطلاق النار وانتهاء الحرب بعد ثماني سنوات معلناً النصر على العدو، داعياً الشعب العراقي والعرب أجمع إلى الاحتفال بهذا النصر.
رحل يوم النصر العظيم، وبقيت أمي تتوشح اللون الأسود حزنا على زوجها (أبي)، الّذي فقد في معركة نهر جاسم قبل يوم النصر بعام واحد فقط، وهكذا بدأت رحلة العراقيات الثكالى مع اللون الأسود أمهات وأرامل وشقيقات لإخوة قتلوا في الحرب، وما زلن يفعلن ذلك يتوشحن السواد؛ إذ لا تزال الحروب قائمة في بلد اعتاد طعم الحرب ودخانها، لقد تغيرت ألوان ثياب العراقيات وأصبحن لا يعرفن غير السواد منه، ربما خطأ فهمنَّ معنى عبارة "أرض السواد"، وارتدين الأسود حزناً على العراق، بقيت أمي كما الكثير من زميلاتها في الحزن يتوشحن السواد داخل البيت وخارجه، كرهت ذلك اللون وشعرت أن الأسود لا يليق بالحزن ولا بالعراقيات.
رحل يوم النصر العظيم، وبقيت ذكراه ماثلة في أذهان جميع العراقيين، متشبثين بتلك الذكرى كطفل يصرخ وهو ممسك بأطراف ثوب أمه خوفاً أن تتركه وترحل، حتى الجيل الجديد من الذين لم يشهدوا ذلك اليوم وتلك الحرب لا يريدون أن يغفلوا عن تلك الذكرى، وإن كانت هناك قناعات عند بعض العراقيين أنه ليس نصراً مقارنة مع الخسائر البشرية لكلا البلدين، لكن التمسك بنصر مضى ويوم رحل نتيجة لنكسات تلوّ النكسات يمر بها العراق الآن، ولأن ذلك اليوم يعد آخر مفاخر العراق الغارق بدماء أبنائه، ولأن التاريخ الحديث من بعد يوم النصر العظيم لم يعرف إلا خيبات تتوالى على أرضه "بلاد الرافدين".
رحل اليوم وبقي أثره في نفسي؛ حتى وأنا أكتب هذا المقال تحسست ذلك الأثر وتمنيت لو ينتصر العراق الآن مرة أخرى وتنتهي الحروب وتلملم أدواتها وترحل عنا بعيداً، وإن كان النصر الجديد على حساب أثر آخر فوق ذراعي اليمين والشمال سوف لن أتردد في ذلك، وسأحتفي مرة أخرى بالنصر الجديد كما فعلت في يوم النصر العظيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.