"في المغرب كل شيء يتغير من أجل أن لا يتغير شيء"، هذه هي الخلاصة المؤلمة التي عبَّر بها عدد من الكتاب والسياسيين والمفكرين، مغاربة وأجانب، عن التحولات السياسية التي حدثت في فترات متفاوتة ببلادنا، وكان من المفروض أن تؤدي إلى الانتقال إلى الديمقراطية، قبل أن يتضح أن هذا الانتقال مجرد سراب كلما اقتربنا منه ابتعد عنا، هل نصدر نحن أيضاً مثل هذا الحكم بعد خمس سنوات من الحلم؟
لنؤجل هذا الأمر قليلاً إلى ما بعد الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وتشكيل الحكومة المقبلة رغم ما لدينا من مؤشرات مقلقة تتجه نحو إعادة ضبط إيقاع هذا الانتقال وربح المزيد من الوقت، ولو أن الملك محمد السادس قد بدد بعضها (هذه المؤشرات المقلقة) في خطاب العرش الـ17، الذي ألقاه يوم 30 يوليو/تموز الماضي، خصوصاً عندما أكد وقوفه على نفس المسافة من كل الأحزاب.
لكن ما زالت هناك هواجس وتخوفات تلقي بظلالها، منها مثلاً، مسألة تعيين وزراء غير محزبين في الحكومة المقبلة، فخطاب العرش الأخير ورغم أنه أغفل دعوة المواطنات والمواطنين للتسجيل في اللوائح الانتخابية والمشاركة المكثفة في هذه الاستحقاقات، خصوصاً أنه جاء إبان فتح وزارة الداخلية لباب التسجيل، إلا أنه أكد أهمية ومحورية المواطنات والمواطنين في محاسبة المسؤولين، لكن هذه الدعوة لا تستقيم مع وجود وزراء تكنوقراطيين لا انتماء حزبي لهم ولا يشاركون في أي انتخابات، وبالمناسبة تضم الحكومة 8 منهم، أي بنسبة 20 في المائة، في الوقت الذي يشارك فيه كل من حزبي الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية بـ 6 و5 وزراء فقط.
وزراء السيادة هؤلاء كما يسمون يشكلون لوحدهم حكومة داخل الحكومة ولا يأتمرون بأوامر رئيسها المنتخب، بل يتلقون تعليماتهم من جهات تتحرك في الظل، ويشكلون في أحايين كثيرة عقبة أمام تنفيذ البرنامج الحكومي، هؤلاء الوزراء لا يتقدمون للانتخابات بعد انتهاء مدة انتدابهم، حتى يتمكن المواطن من محاسبتهم وتقييم أدائهم والتصويت لهم مجدداً من عدمه، فهم خارج شعار "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، مثل هذه الازدواجية في الحياة السياسية المغربية لا ينبغي لها أن تتكرر في الحكومة المقبلة، إذ لا يعقل أن يتحمل رئيس الحكومة مسؤولية وزراء فرضوا عليه فرضاً ولا يشتغلون تحت إمرته، وزراء قادرين في أية لحظة على التمرد على قراراته.
المسألة الثانية التي تشغل بال المتتبعين هي مسألة تعيين رئيس الحكومة، صحيح أن الدستور واضح في هذا الباب وينص على أن للملك الحق في اختيار رئيس الحكومة من الحزب الذي حاز أغلبية المقاعد البرلمانية، لكن التأويل الديمقراطي لمنطوق هذه المادة يقضي بتعيين الأمين العام للحزب في هذا المنصب، هناك حملة منظمة تشنها جهات منذ مدة ضد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الحالي والأمين العام لـ"البيجيدي" للحيلولة دون حصوله على ولاية ثانية، بعدما أصبح من المسلم به أن حزبه سيتصدر الانتخابات المقبلة.
وهناك سببان رئيسيان في اعتقادي لتفسير هذه الهجمة الممنهجة ضد بنكيران؛ أولهما وأد فكرة تعيين نفس الشخص لولايتين في مهدها في ظل الدستور الجديد الذي قطع مع مسألة تعيين رئيس حكومة من خارج الفرق البرلمانية، والحكومات الـ29 السابقة كلها لم تشهد مثل هذا الـ"بدعة"، والسبب الثاني هو شخصية بنكيران وكاريزميته؛ حيث استطاع إلى حد كبير المزاوجة بين الإصلاح -وبعض الإصلاحات كانت مرة- والحفاظ في نفس الوقت على شعبيته وشعبية حزبه، ومن شأن التمديد له ولاية ثانية تمكينه من مواصلة إصلاحاته وخلق نوع من التوازن الاجتماعي، مما سينعكس إيجاباً على حزبه وسيقويه، وهو ما تدركه جهات في الدولة وتسعى جاهدة للحيلولة دونه.
تعيين رئيس حكومة آخر بدل بنكيران في حال تصدر حزب "المصباح" الانتخابات، سيعتبر لا محالة حياداً عن المنهجية الديمقراطية، وسيعطي الانطباع بأن هناك جهات في الدولة صفت حساباتها معه، وأن القصر قد استغنى عنه كما استغنى عن اليوسفي، بعد تمرير مجموعة من الإصلاحات، الأمر الذي سيدفع إلى المزيد من الشك في مدى جدية شعار "الاختيار الديمقراطي"، ناهيك عن كونه سيضعف مؤسسة رئيس الحكومة مستقبلاً، فأي شخص سيتقلد هذا المنصب فيما بعد سيكون مخيراً بين القبول باللعب في المربع الذي رسم له أو ألا يعاود الكرة أبداً.
الزمن السياسي ثمين جداً، وقد أضاع المغرب منه ما يكفي منذ استقلاله ولا وقت لدينا لإضاعة المزيد.
اليوم، لم يعد هناك أي مبرر للخوف من الديمقراطية، وقد أقنع ما تم تحقيقه -ولو بتردد- حتى الآن مجموعة من الهيئات والأحزاب، التي كانت تقاطع الانتخابات، بجدوى المشاركة وبصوابية خيار التغيير من الداخل، كما أنه دفع المواطنين إلى الاهتمام بالحياة السياسية أكثر والثقة في المؤسسات وفتح نوافذ جديدة على المستقبل، ومن شأن المضي قدماً في هذا الطريق بطبيعة الحال إقناع آخرين بهذا الطرح، أو على الأقل عزل هؤلاء وعدم إعطاءهم مبررات للوجود والتكاثر.
نحن نعتقد أن الملك محمد السادس قد جاوز بمملكته بحر الظلمات، وبالتالي لم يعد هناك مبرر للاحتفاظ بالسفن التي عبرنا بها، بعد 7 أكتوبر، فلا أحد يفكر في العودة إلى العهد السابق، اللهم بعض الانتهازيين، منهم محيطون بالملك، ممن لا هم لهم سوى مصالحهم الخاصة، وهؤلاء بالمناسبة قد حاكمهم المغاربة في 20 فبراير/شباط 2011 وفي 25 نوفمبر 2011 وفي 4 سبتمبر/أيلول 2015، هذه السفن ينبغي إحراقها وبدون تردد، لأن المطلوب اليوم ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من حكم الملك محمد السادس أن نحصن أنفسنا بأسوار عالية جداً من الديمقراطية؛ لأنها وحدها الكفيلة بحمايتنا جميعاً، كأشخاص ذاتيين ومؤسسات، كما أنها الضامن الوحيد لاستمرارنا واستقرارنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.