للتاريخ حديث خاص، في مسألة سالت فيها الكثير من المداد، هي جدلية الأصالة والتحديث، التي قسَّمت المفكرين والمدارس الفكرية إلى أصناف: صنف رافض للأصالة جملة وتفصيلاً ويتمسك بقانون التاريخ الحديث الذي سطره كبار المؤرخين العرب حين سطر حكماً أبدياً على شعوب المنطقة العربية والإسلامية بالسير وفق حتمية التأورب وحتمية الحداثة، وأن لا سبيل للرجوع للماضي، وأن للتقدم طريقاً واحداً هو نسيان الماضي والتمسك بحاضر الحداثة والانخراط في إيجابياتها وسلبياتها. وصنف آخر يعاكسه وهو نقيض له يعتبر الأصالة شرطاً أساسياً للحضارة ومصدراً ملهماً للنهضة، بين الصنفين اجتهد تيار يعتبر نفسه توفيقياً حاول من خلال عدة دراسات وكتب التوفيق بين الأصالة، أي التراث الذي يحمل القيم الموافقة والمناسبة للعصر الحديث، وبين حاضر الغرب وتفوقه العلمي الباهر.
هذا التيار التوفيقي جاء في اللحظات التي بدأت مع توظيف الوعي السلفي للأفكار الحديثة والمناهج الجديدة لخدمة قضية أيديولوجية "النضال الوطني ضد الأجنبي"؛ ليتحول بعد ذلك إلى حرب طاحنة ضد المرجعية الثقافية للغرب المستعمر، فكون علاقته مع الغرب بالانفتاح المعرفي عليه والعداء الأيديولوجي له، وهذا ما جعله يحارب كل فكرة مستوردة من منبع الأنوار "أوروبا الحديثة"، مما جعل التيار الذي يتبنى الثورة على الماضي بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية يستخدم كل الأسلحة الفكرية والمنهجية لمحاربة الإصلاح من الداخل ومناهضة الأفكار السلفية بشدة لم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلاً (انظر كتابات مهدي عامل وحسين مروة وحسن الأعظم وغيرهم")، مما ترك الباب مفتوحاً أمام كل الانتقادات موجهةً من كل الأطراف ومتنافسة في قوة الردود فيما بين التيارين، وهذا ما فوَّت الفرصة أمام صناعة تغيير حقيقي أو إصلاح جذري للأوضاع، وترك الأمة في ضياع بسبب تغييب قيم العقلانية، أو على الأقل استغلالها في نقيض لجورها وفي محاربة التيار السلفي.
معرض هذا الكلام، هو الجدل الذي رافق ترشيح حزب العدالة والتنمية لأحد أبرز وجوه السلفية، الذي نعتبره نقاشاً أيديولوجياً بامتياز، فبغض النظر عن إشكالية المنهج لدى الشيخ حمّاد القباج باعتباره جزءاً من تيار ديني لحقه الأذى وتعرض للنكبات إبان أحداث 2016، فإنه من الأجدر تتبع المسار السياسي والفكري لهذا الشخص، والذي لا يعلمه الكثيرون هو أن القباج كان من بين الشيوخ الذين حاربوا التطرّف والعنف، وفي هذا الصدد كتب مذكرة حول الموضوع ساهمت بشكل كبير في إقناع عدد هائل من السلفيين، وكذا من الناحية الفكرية يمكن تصنيف القباج ضمن رواد الفكر المغربي لا ضمن الفكر السلفي؛ نظراً لمساهمته في تنوير العقل الإسلامي باستحضاره تاريخ وأعلام الحركة الوطنية في الكثير من الندوات التي شارك فيها، أو من خلال مقالات نشرها في مواقع إلكترونية، بالإضافة إلى ذلك للشخص مركز بحثي يشتغل بمنطق سليم وفق المبادئ الأربعة للدستور.
الذي يرفض أو ينتقد بشدة ترشيح حزب العدالة والتنمية المغربي لأحد رموز السلفية بالمغرب، لا يستحضر مجهودات المملكة في إدماج السلفيين في الحياة العامة وإشراكهم في المؤسسات، بما لذلك من أثر إيجابي على مستقبل الاستقرار بالبلد، ومن جانب آخر ترشيحه ليس بجديد وليس مفاجأة، ارجعوا قليلاً للتاريخ فالاتحاد الاشتراكي كان يضم شيخ السلفية الوطنية محمد بلعربي العلوي في صفوف قياداته، حيث قال فيه المهدي بن بركة: "لولا محمد بلعربي العلوي لأصبح جل سياسيي الاتحاد الاشتراكي ملاحدة".
وهنا أربط بين الأمرين؛ إذ يعد القباج من ضمن تلاميذ الشيخ التقدمي محمد بلعربي العلوي، الذي كان مقاوماً ومناهضاً للاستعمارين القديم والجديد، والذي كان من الشخصيات الصوفية الدرقاوية ذات الأهمية البالغة في تاريخ الطائفة، حتى بداية القرن الرابع عشر الهجري، وبعد اتصاله بأبي شعيب الدكالي أخذ عنه أفكار السلفية النهضوية في المشرق، فانقلب من فقيه عادي إلى مفكر إسلامي، ويقول الجابري محمد: "إن أصداء السلفية النهضوية في المشرق لم تتطور في المغرب إلى سلفية جديدة فعلاً، إلا عبر الشيخ أبي شعيب الدكالي، ومع السلفي المناضل محمد بلعربي العلوي، وتلاميذه…"، "… بالفعل، كان الشيخ محمد بلعربي العلوي نموذجاً للعالم السلفي المناضل الشعبي في المغرب، سواء أثناء عقد الحماية أو خلال عهد الاستقلال…" .
هذا جانب أساسي ومهم يجب استحضاره بغض النظر عن عالم الأفكار لكن استحضاراً للبعد الوطني والكفاحي لهذه المدرسة السلفية الوطنية، وليس السلفية ذات الأبعاد الإقصائية المظلمة، فحتى علال الفاسي كان من ضمنهم وعرف بمواقف تقدمية قل نظيرها وليس وحده فقط، بل كل رموز ما يسمى عندنا بالسلفية الوطنية كانت لهم مواقف ليبرالية متميزة، أبرزها تجريم التعدد في ستينات القرن الماضي، وكذا عدم تحريم ما تسميه السلفية التقليدية الداعشية بالفجور "عدم تغطية الوجه وشكل اللباس"، وهنا كما ورد عن الجابري في أحد مواقفه أن بلعربي كان له موقف شجاع في مسألة اللباس، إذ يرفض لباس البرقع وليست لديه مشكلة في أن تبين المرأة جزءاً من شعرها، ولم يكن يهتم بمسألة اللباس.
إذن ليس بجديد وليس مفاجأة أن يرشحه العدالة والتنمية، لكن مع تسجيل ملاحظة أساسية ومهمة للغاية، وهي أن هناك فرقاً شاسعاً في الفكر والفتاوى والسياسة والتنظير بين القباج ومحمد بلعربي العلوي.
هذا الفرق يجب ألا يكون سبباً رئيسياً في رفض البعض ترشيح وجه سلفي في البرلمان المغربي خوفاً من حصار وتراجع الحريات الفردية، التي أعتبر أن المغرب استطاع كسب رهانها ولا يمكن التراجع عن المكتسبات التي تحققت في هذا الجانب، لكن ملف السلفية عرف تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، والمتتبع لسلسلة حوارات كان الرميد وآخرون ساهموا في تدبيرها من أجل انخراط شيوخ وممثلي السلفية في الشأن العام، لن يتفاجأ بخبر ترشيح القباج، لكن تسجل نقطة أساسية هي أن فكر القباج إذا انتشر في صفوف العدالة والتنمية ستكون آثاره سلبية. وعلى إخوان بنكيران الانفتاح أكثر على المختلفين معهم في المرجعية من مثقفين ورجال أعمال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.