لعبة التوازنات على الجبهة السورية وصلت لمرحلة كسر العظام، بما يعني أن حجم التصعيد سيرتفع بوتيرة أعلى، سواء على مستوى الكم أو حتى الكيف، وهذا ما ينبئ بتطورات ومفاجآت غير منتظرة خلال الأيام المقبلة، لكن على الأقل ستجعل التفكير الجدي على طاولة الحل معطىً وارداً بقوة خلال الأيام المقبلة.
ردة فعل السيد أردوغان بعد تعرضه للخذلان من حلفائه الغربيين، جعل الرجل في بحث مستميت لرد الاعتبار لنفسه وفي سعي لرد الصاع صاعين، وذلك من خلال استعادة زمام المبادرة في النزاع كهدف أول، وإعادة تشكيل وضبط خريطة التحالفات الإقليمية من جديد، بما يخدم مصالح بلده بالدرجة الأولى كهدف ثان.
العملية الانقلابية الفاشلة قد تكون القطعة التي أفاضت الكأس، لكنها حتماً لم تكن السبب الوحيد للتدخل العسكري في الشمال السوري، فالمعروف أن السيد أردوغان كان من أشد المتحمسين لهذا التدخل، وكان فَرْضُ منطقة حظر جوي في الشمال، مطلباً ملحًّا للرجل، لولا أن معارضة بعض من قيادات الجيش من جهة وحسابات واشنطن المختلفة من جهة ثانية، حتَّم على القيادة السياسية تأجيل الأمر دون استبعاده.
إجراءات -ما بعد- المحاولة الانقلابية خاصةً تسريح ما يربو على نصف قيادات المؤسسة العسكرية وإعادة هيكلتها بما يجعلها لأول مرة تابعاً للرئاسة وتتلقى الأوامر بشكل مباشر منها، كانت من بين الأمور التي شجعت أردوغان على القيام بالخطوة، خاصة وأنه في السابق قد لاقى معارضة وما يشبه "فيتو" من قبل هذه القيادات التي على عكس القيادة السياسية، لم تكن متحمسة لأي زجٍّ بالجيش في المستنقع السوري.
أردوغان الآن في وضع داخلي مريح نسبياً؛ ذلك أن شعبيته في أعلى مستوياتها بعد المحاولة الانقلابية، وكذلك حصوله على دعم وضوء أخضر من المعارضة للإصلاحات والإجراءات الهيكلية المتخذة، وحتى خارجياً من خلال إعادة تطبيع العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل وإيران، وهو ما يؤهله نسبياً للقيام بالخطوة، لكن هذا لا يعني القدرة على الاستمرار دون الحصول على دعم صريح من خطوة التدخل البري في سوريا خاصة من الحلفاء الغربيين.
التدخل التركي المباشر في الشمال السوري وضع حليفها الأميركي أمام الأمر الواقع وجعل الأمور تأخذ منحىً جديداً، خاصة وأن الأخيرة تسعى لتدارك الأمر ولو بشكل محتشم لإعادة جو الثقة المنهارة للعلاقات بين البلدين، فالزيارات التي قامت بها شخصيات عسكرية ومدنية على أعلى مستوى من الإدارة الأميركية لأنقرة في مساعي لتبديد الغيوم واستعادة جزء من التوازن غداة موقف "اللاموقف الأميركي" من المحاولة الانقلابية، والتي ذهبت فيها الأمور حد اتهام أطراف تركية قريبة من دوائر القرار للولايات المتحدة بالتورط المباشر في العملية، وهو الشيء الذي ما كان ليتم لولا الحصول على الضوء الأخضر من أعلى القيادة بالبلد، أي من أردوغان شخصياً.
فالدعم الأميركي للعملية البرية التركية إذا والتي في شكلها الرئيسي المعلن ضد تنظيم داعش وفي غايتها الأساسية تستهدف بالدرجة الأولى الجماعات الكردية المتمركزة في الجانب الشرقي من نهر الفرات، وهي المنطقة التي كانت تشكل دوماً خطًّا أحمر لأنقرة، ما يعني أن واشنطن ما كانت لتضحي بحليفها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لولا الرغبة في استعادة ونيل ود الحليف الأهم والأكبر أي الحليف التركي، خاصة وأن الأخير بات يرى في الدعم الأميركي للأكراد تهديداً جدياً للأمن القومي التركي، وبالتالي على واشنطن الإعلان عن حسن نيتها من الأمر قبل خسارة حليفها.
الاطمئنان على الموقف الروسي بعد عودة الأمور إلى مجاريها في علاقات البلدين لا يعني أن المجال خالٍ أمام أنقرة لتوسيع العملية البرية لما وراء نهر الفرات وبالتالي عليها انتظار الصيغة التوافقية لما بعد مرحلة "جرابس".
فحسابات روسيا هي الأخرى ذات طابع استراتيجي ومرتبطة كذلك بالأمن القومي الروسي، لذلك فقد كانت دوماً في سعي حثيث لتكون الطرف واللاعب الأول في المعادلة، وبالتالي تريد أن تكون الطرف الأساسي في أي صيغة للنزاع على اعتبار أنها من يملك الجزء الأكبر من مفاتيح الحل، خاصة وأنها تمكنت ببراعة من ملأ الفراغ الأميركي الناتج عن الاحتراز والتحفظ المستمر للأخيرة من النزاع منذ اندلاعه.
الموقف الإيراني الرسمي من التدخل التركي لا يزال يكتنفه الغموض في ظل غياب أي تصريح رسمي حول العملية البرية، وإن كان بالطبع سينظر بعين الريبة والشك من الأمر، اللهم إلا إذا كانت هناك توافقات مسبقة للعملية، وهذا وارد جداً بالنظر إلى حجم اللقاءات والزيارات المنعقدة بين الجانبين مؤخراً على أكثر من مستوى وصعيد.
فالأكراد و"الدولة الاسلامية" يشكلان تهديداً مشتركاً للأمن القومي للدولتين وبالتالي يمكن الانطلاق من الصيغة كأساس توافقي للوصول إلى الحل في النقط الأخرى، وحتى العقبة الأكبر بين الطرفين أي مصير الأسد فيمكن الوصول أي صيغة حوله هو الآخر، إذ لا نعتقد أن الإيرانيين بتلك السذاجة التي تجعلهم يتشبثون بورقة محروقة، بل وأصبحت مكلفة للغاية لهم إذا ما حصلوا على ضمانات تحول دون فقدان مصالحهم الحيوية والإستراتيجية في البلد.
المعطى الجديد-القديم هو دخول الصين على الخط من خلال تقديم مساعدات للنظام لم يكن شيئاً جديداً لأن هذا الأمر كان موجوداً منذ أزيد من خمس سنوات، وإن كان مؤخراً اتخذ طابعاً رسمياً، وأصبحت اللقاءات والمساعدات تتم بشكل معلن.
لكن هذا التدخل قد يُفهم منه جانبان.. جانب أول هو أن الصين تسعى للحصول هي الأخرى على نصيب من أي صفقة أو حل مستقبلي بما يرعى مصالحها الاستراتيجية الحالية وحتى المستقبلية، كدولة تسعى للبحث عن موطئ قدم في حل النزاعات الأساسية في العالم كدور جديد يتناسب مع وجودها وحجمها الاقتصادي كقوة عالمية.
الجانب الثاني هو لتتبع ومراقبة الجهاديين التركستان المنتمين إلى أقلية "الإيغور" المسلمة والذين يقاتلون ضد النظام السوري، إذ يمكن أن تشكل عودتهم لبلادهم مصدر قلق وتهديد للأمن الصيني، وهذا يعني من الجانبين احتمال تدخلها هي الأخرى عسكرياً في محاولة "استعراض عضلات" وسعي لفرض نفسها كطرف رئيسي بعد ذلك، خلال عملية التفاوض عن الحل النهائي.
النقطة والكلمة مربط الفرس من النزاع بأكمله الآن هي الموقف "الإسرائيلي"، إذ لا ننكر قدرة الأخيرة على اللعب بمهارة وبأقل جهد ممكن في الملف بما يجعلها المتحكم الحقيقي بزمام الأمور، فهي حالياً في وضع مريح ومثالي ما دام تدمير البلد وإضعاف النظام أكثر، يعني بشكل آلي إضعاف -وربما إنهاء- التهديد على الجبهة الشرقية، زد على ذلك توريط أكبر عدوين لها أي إيران وحزب الله، وحتى توريط تركيا أردوغان يبقى شيئاً مثالياً لها، إذ حتى وإن كان هناك اتفاق تطبيع للعلاقات بين الطرفين، لكن يبقى الشك والتوجس الدائم والمتبادل، أساس العلاقة بينهما.
بما أن موقف الإدارة الأميركية في جزئه الكبير من الأزمة مرتبط بما تريده ويخدم مصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى، فمن هنا إذاً قد يبرز دور إدارة أوباما في محاولة لإقناع الأخيرة بالحل، يبقى السؤال المهم الآن فقط، ما هو الثمن والمقابل الذي تطلبه إسرائيل نظير القبول بصيغة هذا الحل؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.