واحتار قلمي!

تصف حلب برائحة الخبز العربي الفائح بين أزقتها العريقة، تحكي عن الشام، عن الفيحاء وجمالها الآسر، عن سوريا الأثيلة، عن وقفة صباح فخري، عن عود فريد الأطرش، عن أفراح البيوت العربية والأعياد هناك، تسرد حكايات عمران، حين كان يتسابق وأقرانه في ساحة المدرسة، حين وقف على قدميه أول مرة، حين رأى النور ونادوه: "عمران"...!

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/26 الساعة 02:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/26 الساعة 02:51 بتوقيت غرينتش

خاطبني أحدهم قائلاً: "وددت أن أقرأ لك نصاً مزركشاً يعاكس الألوان المكفهرة من حولنا.. فكل كتاباتك حزينة وكأن الدنيا لا شمس بها والليل لا نجوم له!".

تذبذبت كلماته على مخيلتي قبل سمعي، فاختليت بدفتري منقبة عن نص يسقط حكمه عليّ ويبعد الشبهات عني! فلم أجد!، ولأن الكاتب صوت القارئ المسموع قررت أن تكون مقالة هذا الأسبوع متراقصة الحروف لا وجه فيها، لا عبرات، لا عتاب ولا انتقاد… أن لا تنبض إلا فرحاً.

أخذ التفكير مني في موضوعها أياماً، فكلما عثرت على أحدها وهممت بالكتابة أجدني أنجرف لتلقي بي كلماتي في دوامة أسى جديدة وكلما اكتسى يراعي ثوب التفاؤل يغدو سريعاً يحاكي بسواده الدجى الدامس.

بعد محاولات عدة استطعت أخيراً أن أبلغ المرام، حددت الموضوع، فكرت في منهجية صياغته، عانقت أناملي القلم وصرت أناقش وإياه الفكرة… وبينما نحن هكذا، انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديو لطفل سوري تم انتشاله من تحت الأنقاض، نادتني أختي من الغرفة المجاورة مخبرة إياي أنها قد أرسلته لي عبر رسالة، أخذت أفتح صندوق الرسائل جسدي هنا، وعقلي هناك، ما زال يبلور فكرة النص.

سرعان ما شاهدت الفيديو توقف التفكير حيث كان، عطلت حواسي وسكنت جوارحي لم يتبق بي سوى دموع منهمرة أبت أن تحبس، إحساس غريب اختلجني، خليط بين القهر والاشمئزاز.. بين الصدمة واليأس!

تصلبت أمامه لدقائق، ثابرت في مقاومة ذاك الشعور بالمرار الذي ربط لساني لفترة، عجزت عن التعليق وكأن الحياة انقطع بثها.

برعم في عمر الزهور، شابت نوادر طفولته، أطل من شرفة الأنقاض مدمى الأحلام.. بيدين صغيرتين صار يتفقدها أكسيرة هي أم لا بأس بها؟ أتداركها ممكن أم مستحيل؟

بمقل قاحلة اجتف شلالها وذبل عشبها يمارس نظرة قاهرة تخجل المتابع، نظرة صائتة تروي نكبة شعب برمته، انقلبت حياته بين ليلة وضحاها.. بينما كان يحتسي القهوة الشامية بين الياسمين في فناء البهو، حتى ضاعت بوصلته ولقب لاجئاً.

تصف حلب برائحة الخبز العربي الفائح بين أزقتها العريقة، تحكي عن الشام، عن الفيحاء وجمالها الآسر، عن سوريا الأثيلة، عن وقفة صباح فخري، عن عود فريد الأطرش، عن أفراح البيوت العربية والأعياد هناك، تسرد حكايات عمران، حين كان يتسابق وأقرانه في ساحة المدرسة، حين وقف على قدميه أول مرة، حين رأى النور ونادوه: "عمران"…!

نظرة مثقلة بالهموم، ترفض التعليق حتى، وماذا بقي ليعلق عليه؟! وقد رفعت دبابات الغدر وحظرت الحياة على العامة.

في الوقت الذي كان لا يتمنى فيه سوى أن تحلق طيارته الورقية في الأعالي، حلق حلمه وتشتت بين طائرات القصف التي لم تتردد للحظة في دفنه وأحلامه.. ولم تأب إلا إزكامه برائحة الموت..

عمران.. طفل بين الملايين تنتهي قصتهم قبل إعلان فصل البداية… تنتحر طفولتهم أمام الملأ ولا يرغبون إلا في شباب كريم لمن حالفه الحظ منهم وعاد إلى مستنقع الحياة بعدما كان يقف على الحدود بين الحياة والموت.

أخذت اليراع من جديد وانهالت عبراتي على الدفتر، لطخت الورقة البيضاء بهذه السطور المبعثرة؛ لأعود وأجدني أبكي وقلمي كالعادة.
عذراً صديقي، فهذا القلم أبى أن يبتسم إلى أن تنتهي هذه القذارة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد